منذ نشأة الحركات الإسلامية، ومع بداية دخول الإسلاميين ملاحم العمل التنظيمي، ظهرت مشكلة حادثة على هامش التجربة، التي تتمثل في التعارض بين مبدأ إسلامي أساس ورئيس وهو مبدأ المساواة وخفض الجناح ولين الجانب والصفح والعفو والأخوة، ومبدأ تنظيمي أيضًا أساس ورئيس وهو التدرج الهرمي للأفراد وإظهار هيبة المسمى التنظيمي والحزم والجزم والشدة والقوة والحفاظ على اللوائح التنظيمية والإداريات، وتستطيع أن تلخص ذلك في مصطلح «العمل المؤسسي».
وللتوفيق بين مبدأي المساواة والعمل المؤسسي كانت الحاجة ماسة لظهور قواعد عامة وحاكمة جديدة بين المبدأين تنطلق من الأخوة والود وسوابق المؤسسين في المحن، لكنها تحكم واقعًا عمليًّا حقيقيًا مسقطًا على وقائع آنية كلما كانت المواقف متشابهة أو قريبة الصلة، ولما كانت هذه القواعد عبارة عن تلك المساحة الفارغة التي يتم استدعاؤها من قبل أفراد الصف أو التربويين في الحلق والجلسات أو المسؤولين في ممارساتهم الإدارية؛ أطلق على هذه القواعد القيمية مصطلح «الأدبيات».
بالنظر إلى أي مؤسسة، فإن الأمر في أوله يكون قوي الفكرة واضح المعالم مكتمل التصور حاضر الأفراد حيًا في رؤوس مؤسسيه، ثم لا يلبث أن تتوالى عليه الضربات ويتربص به أعداؤه ثم ينتابه الضعف شيئاً فشيئاً بموت مؤسسيه، فإما أن يموت ويتلاشى أو أن يتطور ويحمل مشعل التجديد جيل آخر تربى على يد المؤسس؛ فنبتت الفكرة في قلبه ليغرسها في واقع مختلف ليعود الأمر كما كان قوي الفكرة واضح المعالم مكتمل التصور حاضر الأفراد حيًّا في رؤوس مجدديه، ثم تدور الدورة.
ولا شك أن أدبيات التأسيس الأول تختلف عن أدبيات الصمود والمواجهة، تختلف كذلك عن أدبيات الضعف والخمول، ولا بد وأن تختلف عن أدبيات التجديد، فبينما تأتي الأولى مستحضرة معاني البذل والعطاء والأفكار العامة والقواعد المجردة والمبادئ السامية، تأتي الثانية متمثلة في البأس والتضحية والثبات واليقين، ثم تأتي الثالثة متلبسة لمعاني المظلومية والفقد والحنين إلى مجد المؤسسين، ومحاولة الخروج من الواقع باستحضار الماضي ومحاولة إسقاطه وفق معطيات الحاضر المتهاوي.
أما عن أدبيات التجديد، فهو أمر يحتاج إلى عمق في النظرة؛ إذ إن التجديد ما يلبث أن يغير من معطيات القديم وفق رؤيته للقادم المرجو، فيثور على الحال رافضًا منتجاته بكل ما تحمله من تأويلات وتفسيرات وإسقاطات في غير محلها؛ لأن هذه المنتجات صارت بدورها عمود المرحلة المتجاوزة وقوامه، والأدبيات وإن كانت رمزية المعنى إلا أنها عظيمة الأثر واسعة التطبيق قديمة قدم المؤسس تحتاج في تجديدها إلى الغوص في الفلسفة العامة للفكرة، مرورًا بمراحلها المختلفة، لتخرج في صورة متوازنة بين تقلبات الماضي والحاضر والمستقبل، حيث إنها الوسيلة الأهم والمعول عليها في الحفاظ على الإرث الدعوي للكيان والعمود الفقري الواصل بين المراحل المختلفة وامتدادها التاريخي الضارب في عمق الزمن من التأسيس إلى التجديد.
ولما كان شعار هذه المرحلة كما هو مستقر واقعًا لا مجاز فيه هو دم ودموع، فكر وميدان، كتاب ومدفع، قوة وحكمة، واقع ورؤية، حزن وقصاص، إخوة ودعوة وأمل وخلاص.. كان لزامًا على المرحلة والمواقف أن تنتج أدبياتها التي تغذي هذه القيم والأهداف لتنطلق منها وإليها في تناغم لا نشاز فيه بين المرسل والمستقبل، فإذا صحت الفكرة وقوي التنظيم ووضحت الرؤية ورفع الشعار وبدأ العمل سرت الأدبيات بين الأفراد روحًا قوية تزيل ما علق في النفوس من شبهات الحيدة عن الطريق وشهوات التطلع والحيف ورواسب الخلاف البائد وشوائب الانتصار للنفس؛ لتخلص في الأخير إلى جسد متماسك لا تقهره الضربات، وروح سامقة لا آفاق لها.