تذكرتُ في ذكرى استشهاد د. عبدالعزيز الرنتيسي (17 أبريل 2004م)، القائد في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، محنة مرج الزهور التي حولها الأبطال الفلسطينيون بحنكة وحكمة وإصرار إلى منحة، وأغلب ظني أن الكيان الصهيوني ندم كثيراً على فعلته هذه التي أنتجت جيلاً من المقاومين الذين صاروا شوكة في حلوقهم، لم يستطيعوا نزعها.
ما حدث أن الصهاينة قرروا إبعاد 415 ناشطاً إسلامياً فلسطينياً من الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين عام 1967م إلى منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان، في 17 ديسمبر 1992م، وكانوا ينتمون إلى حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وقد رابط هؤلاء المبعدون في مخيم أسموه «العودة»؛ وذلك لإرغام سلطات الاحتلال على إرجاعهم، وقد نجحوا في ذلك.
كان هؤلاء المبعدون من مختلف الشرائح الاجتماعية، فمنهم الطبيب والمهندس والشيخ والعامل والموظف والقاضي والتاجر.. حيث أراد الاحتلال إبعاد هذه النخبة من خيرة أبناء الشعب الفلسطيني عله يستريح منهم.
يقول أحد المبعدين: كان مخيم المبعدين أشبه بالدولة المصغرة؛ فقد شكلوا من بينهم لجاناً مختلفة، منها: اللجنة الإعلامية برئاسة د. عبدالعزيز الرنتيسي، المتحدث باسم المبعدين باللغة العربية، ود عزيز دويك، المتحدث باللغة الإنجليزية، وشكلوا كذلك لجاناً مالية واجتماعية ورياضية ودعوية.. وغيرها.
ماذا لو تحررت كل بلادنا وامتلأت بمعسكرات مشابهة للعلم والعمل؟
وقاموا بتأسيس جامعة تدرِّس مختلف العلوم، أطلقوا عليها اسم «جامعة ابن تيمية»، قامت بتنظيم دورات في التجويد وحفظ القرآن، ودورات في فنون الكاراتيه والخط والخطابة، ودورات لتعليم اللغة الإنجليزية.. وغيرها، هذا إضافة إلى كثير من الخبرات والعلوم التي تم تعليمها للمبعدين أثناء فترة الإبعاد، وقد ساهمت في إكسابهم العديد من المهارات والعلوم الدينية والدنيوية.
معسكر عمل مكثف
هكذا أرسل الاحتلال الصهيوني، دون أن يدري، نخبة من الشعب الفلسطيني لمعسكر مكثف للتدريب والتعليم، قام فيه هؤلاء الأبطال باكتساب مهارات وخبرات حيوية في جو من الحرية المنضبطة بضوابط الشرع لينشروها بين شعبهم المرابط عندما يعودون ليمارسوا ويواصلوا جهادهم.
وفي يناير 2006م، فازت «حماس» في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، لتتمكن من إدارة قطاع غزة بكفاءة واقتدار، أبهرت العدو قبل الصديق؛ فقد أفادت من مشتل الحرية في مرج الزهور في إقامة واحة وقلعة للحرية في غزة العزة على الأرض الفلسطينية المباركة.
ما ذكرته في هذه المقدمة، أريد أن أصل به إلى هذه النتيجة، فأقول: لننظر ماذا فعلت الحرية في هذا المعسكر العلمي والعملي والتدريب المكثف في مرج الزهور؛ حيث ساهمت في بناء قلعة للأبطال في أرض الرباط.
ولنتخيل، ماذا لو تحررت كل بلادنا في مشارق الأرض ومغاربها وامتلأت بمعسكرات مشابهة للعلم والعمل؟
هل نستطيع استنساخ مرج الزهور؛ فنحول بيوتنا إلى مروج، وبساتين، وواحات للفقه، والعلم؟ نعم نستطيع.
والحديث لك أختي المؤمنة، حيث تستطيعين أن تحولي بيتك إلى مرج للفقه وواحة للتعلم، كما فعلت أم الإمام الشافعي، فاطمة بنت عبدالله الأزدية، التي دفعت بابنها للعلم وشجعته عليه حتى حفظ القرآن في السابعة وتتلمذ على يد مشايخ المسجد الحرام، وقد كان لها دور فعال ومؤثر في حياته؛ فبعد أن حفظ القرآن الكريم وأتقن تلاوته، وأحاط بالتفسير على يدي هؤلاء المشايخ، لم تقف به عند هذا الحد، فأذنت له بالسفر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لدراسة علم الحديث، وأخذ العلم على يد الإمام مالك، ولازمه مدة 9 سنين، ولم ينقطع عنه إلا لزيارة والدته أو لرحلة علمية.
تسطيعين تحويل بيتك إلى واحة للعلم بالتخطيط والتدريب والإعداد
وكذلك فعلت أم الإمام مالك، العالية بنت شريك بنت عبدالرحمن الأسدية؛ حيث يقول: «نشأتُ وأنا غلام، فأعجبني الأخذ من المغنين، فقالت أمي: يا بني، إن المغني إذا كان قبيح الوجه، لم يُلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلُب الفقه، فتركت المغنين وتبعت الفقهاء، فبلغ الله بي ما ترى»، ترى كيف غيَّرت ابنها بعبارة توجيهية بسيطة، ولكنها بليغة، حولت مجرى حياته، ليصبح إماماً لدار الهجرة.
أما أم أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري، فقصتها أعمق وأبلغ؛ فقد كان –قبل أن يصبح من سادة وعظماء التابعين- يتيماً فقيراً معدماً، ولما أدركت أمه بفطنتها نجابته وحبّه للعلم، قالت له: «يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي هذا»، وهكذا أخرجت للأمة آية من آيات الله في حفظ الحديث، وسيداً من سادات العلماء الكبار، حتى قال عنه الإمام الأوزاعي: «لم يبقَ مَن تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان».
تذكَّري، أختي، أن أم السلطان محمد الفاتح كانت تأخذه وهو صغير في وقت الفجر ليشاهد أسوار القسطنطينية، وتقول له: «ستفتح أنت يا محمد هذه الأسوار، اسمك محمد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ولما كان يسألها: كيف؟ كانت ترد قائلة: «بالقرآن والسلطان والسلاح وحب الناس».
والتاريخ يذكر لنا أن سر عظمة الخليفة الأموي الأندلسي عبدالرحمن الناصر هي أمه، هذا الرجل الذي حكم الأندلس وأحيا الخلافة الأموية فيها، ثم خاض المعارك والملاحم مع الأوروبيين، وأصبحت قرطبة في عهده مقر خلافة يحتكم إليها أمراء أوروبا وملوكها، ويذهب إلى جامعتها طلاب العالم.
والسر في هذا كله يكمن في أمه التي ربته، فقد نشأ يتيم الأب، فاعتنت أمه بتربيته ورعايته حتى أصبح من أعظم الخلفاء المسلمين في الأندلس.
التاريخ حفظ لنا أسماء أمهات عظيمات ربَّين أبناءهن ليكونوا عظماء
بيتك مملكتك
تسطيعين، أختي، أن تحولي بيتك، وهو مملكتك أنت، إلى مرج للزهور وواحة للعلم، صحيح أن هذا ليس سهلاً، لكنه ممكن، وليس مستحيلاً، فهذا يحتاج إلى علم تتعلمينه، وتخطيط وتدريب وعُدة، فأعدي لذلك ما استطعتِ، فلست مكلَّفة بأكثر مما تستطيعين؛ (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286).
اعملي وثقي في عون الله تعالى وتوفيقه؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
اعملي فقد تربين فاتحاً مثل السلطان محمد الفاتح الذي فاز ببشارة النبي الأعظم، وقد تربين عالماً ربانياً يذكرنا بالشافعي، ومالك، والثوري.