صورة عميقة الدلالة تَلِحُّ علينا لبيان طراز شاب أجبر قلم التاريخ أن يكْسِبَهُ فضلًا ويكْسُوه فخرًا.
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرص على الاستماع للوفود التي تأتي من خارج المدينة ليقف على حاجات رعيته، فندب عددًا من ممثلي الوفود للحديث، فما قالوا شيئاً ذا شأن، فنظر أمير المؤمنين عمر إلى شاب أبيض خفيف اللحم، خفيف الجسم تُبدي سِيمَاهُ الخيرَ، وتنشر قسماته الراحة في نفس رائيه(1)، واستحثَّه على الحديث قائلاً: هيه(2)..
ولأن الخشية من الله لا تدع في القلب مكانًا للخشية من غيره، قال الشاب: هيه يا أمير المؤمنين، والله ما ولِّيت هذه الأمّة إلَّا ببلية ابتليت بها، ولو أن شاة ضلَّت بشاطئ الفرات لَسُئِلْتَ عنها يوم القيامة.
كان وقع الكلمات في نفس عمر عميقًا ومزلزلًا، فانْكبَّ يبكي، ثم رفع رأسه قائلًا من خلال دموعه: ما صدقني أحَدٌ مُنذُ استُخلِفتُ كما صدقتني، فمن أنتَ؟!
فأجاب هادئًا: الربيع بن زياد الحارثي من بني الحارث بن كعب.
كان الربيع يعلم تواضع عمر وعظمته، ويعلم أنه سوف يذعن لنصيحته، بل ويذعن لها فوق أي أرض وتحت أي سماء حتى ولو فاهت بها أَمَةٌ سوداء، وبين صدع الربيع بها وإذعان عمر لها انضمت مفردات الصورة وتلألأت في إطارها.
كان الربيع قد أدرك الأيام النبوية، ولم يقدم المدينة إلا في أيام عمر، وعرف عمر أن للربيع قدرًا لا ترقى إليه أقدار من سواه، وكذلك عرف الناس قدر الربيع ومعناه.
فها هو عمر يقول يومًا لمن حوله: دلُّوني على رجل إذا كان في القوم أميرًا فكأنَّه ليس بأمير، وإذا كان في القوم وليس بأمير فكأنَّه أمير بعينه.
فأجمعوا على قول: ما نعرف إلا الربيع بن زياد الحارثي.
وبكلمة واحدة: «صدقتم»، أقرَّ عمر هذا الاستثناء وزكَّاه.
ويحدثنا الخبر بأن التواضع والمهابة كانتا خلتين متأصلتين في نفس الربيع بن زياد، ودائماً ما كان سلوكه يزدهي بهما ويزدان، فهو إن كان أميرًا فليس بحاجة إلى لين التواضع؛ لأن طبعه سوف يخلعه عليه رغمًا عن مهابة الإمارة وأمارات السيادة.
وهل يحتاج ولي الأمر الفطن فيمن يولِّيه أكثر من توافر هذين الخُلُقَين: المهابة والتواضع؟
فالمهابة يردع بها أعداء أمته وغوغاء(3) رعيته، والتواضع يلين به للرعية، ويعيش بينهم دون مزيَّة.
فكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يستعمله، فاستعمله أبو موسى على البحرين، واستخلفه على حرب مناذر(4) سنة 19هـ؛ فافتتحها عنوة واستشهد فيها أخوه المهاجر بن زياد.
وتمرُّ السنون ولا تزال أخبار الربيع تُصَرِّح بأنَّه أَهْلٌ للحكم والإمارة، فاستعمله معاوية بن أبي سفيان على سِجِسْتان(5)، وبقي أميرًا عليها إلى أن مات المغيرة بن شعبة، فولَّى معاوية زيادًا بن أبيه الكوفة مع البصرة، فعزل زياد الربيع عن سِجِسْتان، واستعمله على خُراسان(6) فغزا بلخ وغيرها.
وإن الحكم والإمارة، والغزو والقيادة لمؤهلات يُبَارِي الكثيرون فيها الربيع، ولكن لا تلبث أخبار الربيع أن تُطالعنا بخبر يحثنا على التساؤل: فمن يباريه على ساحة هذا الخبر؟
فبينما تدرج الدنيا في سنة 53هـ، كتب زياد بن أبيه إلى الربيع: إن أمير المؤمنين معاوية يأمرك أن تحرز الصفراء والبيضاء وتُقَسِّم ما سوى ذلك.
فكتب إليه الربيع: إني وجدت كتاب الله عز وجل قبل كتاب أمير المؤمنين.
لم يأبه الربيع بزعم ابن زياد برغبة أمير المؤمنين معاوية، ولم يُقِمْ اعتبارًا لعزله من إمارة بلد أو قيادة جيش، وما رَاعَهُ إلا غضّ الطرف عمَّا حكم به الله، وما روَّعَتْهُ إلا كلماته عز جل: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ) (الأنفال: 41).
وكأنَّـنا به وهو يزفر في أسى، بينما يأتيه من أعماق ضميره قول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمَّـسَ الغنيمة(7).
فنادى في الناس أن اغدوا على غنائمكم، فأخذ الخمس وقسم الباقي على المسلمين، ثم قال: أيها الناس، إني قد مللت الحياة، وإنِّي داعٍ بدعوةٍ فَأمِّنوا، ثم رفع يديه فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضي إليك عاجلاً.
وأمَّنَ الناس، ثم خرج فما توارت ثيابه حتى سقط فَحُمِلَ إلى بيته ميتًا.
حكم الربيع في الغنيمة بحكم الله عز وجل، ثم دعا الله أن يقبضه إليه فقُبض لساعته!
وهكذا لم تكتفِ سيرته بمطالعتنا بخشيته من الله، وصدعه بكلمة الحق، وأنه كان مهيباً متواضعاً أهلاً للحكم والإمارة، وجديرًا بالغزو والقيادة فحسب، فبينما نحن مأخوذون منها وبها ويستبد بنا عجب وإعجاب تزيدنا بأنه كان مستجاب الدعوة، وما نحسبه إلا وقد نال ما شاءه من جنات ربه، فلا ريب في أنَّه مدَّ بصره إلى هناك، ولم يكن بصره ليقصر عنها يوماً، فالظفر بمقعد فيها كان رغبة تتمدد في جنباته وتتمطى، ورضي الله تعالى عن الربيع وأرضاه، فقد كان كما خَبَرَهُ أمير المؤمنين عمر ورآه، ذا طبع لا يَرْقَى إليه من سواه.
_____________________________
(1) من يرى وجهه ويطالع قسماته.
(2) كلمة تقال للاستزادة من الحديث أو الحث عليه.
(3) السفلة من الناس.
(4) مناذر: هي حاليًا إحدى مديرية أسلم التابعة لمحافظة حجة باليمن.
(5) سِجِسْتان: منطقة تاريخية تقع معظمها في أفغانستان وأجزاء منها في باكستان وإيران.
(6) خُراسان: إقليم خُراسن الإسلامي كان يشمل شمال غرب أفغانستان، وأجزاء من جنوب تركمانستان إضافة لمقاطعة خُراسان الحالية في إيران.
(7) انظر: تفسير ابن كثير للآية.