لم يكن المسجد الأول الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد بنيان تؤدى فيه الصلوات الخمس وفقط، بل منذ الوهلة الأولى والرسول عليه الصلاة والسلام وضع الوظائف التي يريدها الله عز وجل أن يؤديها بيته في الأرض؛ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور).
فكان المسجد المقر الجامع الذي يفد إليه المسلمون لأداء عباداتهم، والبحث عن حلول لمشكلاتهم اليومية، وتدبير شؤنهم العامة، كما أنه كان محراباً للتعليم والمعرفة، وساحة لتوزيع الأموال من صدقات وزكوات على الفقراء والمحتاجين، ومأوى للغرباء وأبناء السبيل، ومستشفى لعلاج المرضى والمتألمين، كما أنه كان محلاً للقضاء بين المتخاصمين.
يقول الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، في بيان قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ): فأتصور أن الرفع هنا ليس للدعائم والجدران، إنما هو للساحات الطَّهور التي تخصصت للركَّع السجود، فبعد أن كانت أرضًا عادية يغشاها أي إنسان؛ أضحت أرضًا لا يدخلها إلا متوضئ، وبعد أن كانت لأي غرض عادي أضحت همزة وصل بين الناس ورب الناس، ومهادًا للمعراج الروحي الذي ينقُل البشر من مآربهم القريبة إلى مناجاة الله وتسبيحه وتمجيده! أليس هذا ارتقاءً معنويًّا للأرض نفسها؟
ومنذ أن أهمل المسلمون رسالة المسجد ودوره المنوط به في قيادة الأمة؛ ونحن نشهد تراجعاً كبيراً في جميع مناحي الحياة، وتم حصار دور المسجد كما خطط لذلك أعداء الإسلام وحصر دوره فقط على أداء الصلاة، تجلى ذلك وبكل أسف فيما قامت به بعض البلدان المسلمة من إغلاق المساجد بعد الصلاة مباشرة، وعدم السماح بأي أنشطة دعوية أو اجتماعية أو توعوية، وهذا ما افتقده المسلمون في السنوات الأخيرة.
وأنا أشارك إقبال، شاعر الإسلام العظيم، مشاعره تجاه المسجد فقال مخاطباً إياه:
وإنك رمز لإيماننا
وليلاً وصبحاً لتسبيحنا
تمثل مجداً لنا في العلا
وترفع قدراً لنا في الملا
وأشاركه أيضاً يوم عاتب الأمة الإسلامية على إهمالها دور المسجد، وغياب الروح والتأثير عن رسالته، في مقطوعة شعرية يقول فيها:
أرى التفكير أدركه خمولٌ ولم تَبْقَ العزائم في اشتعالِ
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقالِ
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالِ
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلالِ
الدور الاجتماعي للمسجد
ومن أهم الأدوار التي أداها المسجد على مدار تاريخه؛ الدور الاجتماعي الذي كان له فضل كبير في حفظ أواصر المجتمع المسلم وتماسكه والحفاظ على الروابط الاجتماعية بين المسلمين وبعضهم.
والأمة في واقعنا المعاصر في أشد الاحتياج لمن يقوم بالدور التوجيهي والتوعوي الخاص بالأسرة وقضاياها والحرص على تماسكها وترابطها، خصوصاً في ظل حالة التفسخ الأسري والتفتت الاجتماعي التي تعبر عنها الإحصائيات الرسمية المفجعة التي تخبرنا، مثلاً، أن نحو مليون حالة سنوياً تتردد على محاكم الأسرة بمصر، وتقع 240 حالة طلاق يومياً بمعدل 10 حالات طلاق كل ساعة، حسب تقرير صدر عن مركز معلومات مجلس الوزراء المصري، إلا أن مصر تحتل المركز الثاني بين الدول العربية من حيث نسبة الطلاق إلى إجمالي الزيجات، حيث ارتفعت نسب الطلاق خلال الخمسين عاما الأخيرة من 7% إلى 4%، ووصل عدد المطلقات إلى 3 ملايين مطلقة.
المقارنة بين أعداد حالات الطلاق، يظل مؤشراً على ما تمر به المجتمعات العربية من أزمات اجتماعية خانقة.
لذا كان لا بد لكل المؤسسات الدعوية والتربوية والتوجيهية أن تقوم بدورها المنوط بها في حماية الأسرة المسلمة من التفكك والتدهور، ويبدأ هذا الدور من تأهيل الشباب للزواج تأهيلاً معرفياً ونفسياً ومهارياً.
والمساجد لها نصيب كبير للقيام بذلك، فالمسجد هيئة إسلامية عظيمة لا يمكن إصلاح المجتمع إلا بتفعيل دورها؛ لأنها تربي المجتمع تربيةً إيمانيةً متكاملةً، وتقوم بصبغ الإنسان بأحسن صبغة، وهي صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة.
وهذه بعض المقترحات التي يمكن للمسجد أن يقوم بها من أجل النهوض بمستوى الأسرة المسلمة وتعريف الشباب بالحقوق والواجبات الملقاة على عاتقهم:
– تكوين فريق من الخبراء والتربويين والاستشاريين النفسيين والحكماء من أهل المسجد ودوائره المتخصصين للاستعانة بهم في برامج التأهيل والتدريب الأسري.
– إعطاء دورات تأهيلية للشباب لكيفية إقامة بيت تسوده المودة والرحمة والتعريف بالحياة الزوجية، فيجب على الشباب فهم أن الحياة الزوجية تتطلب الكثير من الجهد والتفاني والتفاهم والتسامح، وتوضيح أهمية الحياة الزوجية وأسسها ومتطلباتها، وتسليط الضوء على الجوانب الإيجابية لها، كما يجب أن يعرف الشباب أن الاختيار الصحيح للشريك يمثل عاملًا مهمًا لنجاح الحياة الزوجية.
– إقامة دورات وورش عمل عن التعامل مع المشكلات الزوجية؛ يجب أن يتعلم الشباب كيفية التعامل مع المشكلات الزوجية وطرق حلها، والتواصل المفتوح والصريح مع الشريك، وتحقيق التفاهم والتسامح.
– مساعدة الشباب الذين يريدون الزواج في أن يجدوا نصفهم الآخر، والتوفيق بين الشاب والفتاة عن طريق مجتمع المسجد، ومن الممكن تنظيم الأمر وفق ضوابط وشروط تضمن تحقيق الهدف بشكل شرعي ومنضبط.
– مساعدة المتعثرين مالياً من الشباب عن طريق القرض الحسن، أو على شكل هدية تقدم للشباب حتى يتجاوزوا هذه المرحلة التي تثقل أعباءها كواهل الشباب.
– توجيه بعض خطب الجمعة للحديث عن المواضيع التي تساهم في تأهيل الشباب للزواج وإكسابهم الخبرة المطلوبة للقيام بمسؤولية البيت المسلم؛ كالحديث عن الاختيار الصحيح لشريك الحياة وفقاً للقواعد التي رسمها لنا الشرع، والحديث الحقوق والواجبات على الزوج والزوجة، وتشجيع أولياء الأمور على تيسير الزواج والتخفيف من تكاليفه، وغير ذلك من مواضيع متعلقة بهذا الأمر.
– تقديم خدمات التوجيه والإرشاد النفسي للشباب الذين يعانون من مشكلات نفسية أو عائلية تؤثر على قدرتهم على الزواج والاستقرار الزوجي.
– إعطاء دورات تدبير منزلي للفتيات زوجات وأمهات المستقبل، يشمل تعلم الطبخ وإدارة المنزل وعمل ميزانية مالية لمصاريف المنزل وما إلى ذلك.
– عمل لقاءات شهرية للشباب المتزوج ولقائهم بمجموعة من الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين يشرفون على متابعتهم وتوجيههم، وتعديل أي سلوك خاطئ منهم قد يفسد حياتهم الزوجية.
– تبني المسجد لحملة توعوية للشباب المقبل على الزواج وعمل عدة وسائل تخاطب الأنماط المختلفة من الشخصيات، مثل: تصميم ملصقات وبوسترات وتعليقها في المسجد ومكاتب الزواج، وتوزيع كتيبات صغيرة على المقبلين على الزواج وتعريفهم أنشطة المسجد والمؤسسات التي تهتم بالأسرة والطفولة.
– النزول بقوافل توجيهية وحملات توعوية في أماكن تواجد الشباب ومكاتب الزواج، ونشر فكرة الاستشارة السريعة بوجود أحد المتخصصين النفسيين أو الاجتماعيين في تلك الحملة لمن يريد أن يسأله؛ كل ذلك باسم المسجد لتعزيز دوره وتثبيت مكانته وتغيير الصورة الذهنية المأخوذة عنه.
– توجيه الشباب نحو تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، والسعي لامتلاك المهارات التي تؤهلهم لسوق العمل، وتشجيعهم على العمل الجاد والمثابرة وتحمل المسؤولية، ومن الممكن عمل دورات لتنمية مهاراتهم وتأهيلهم لسوق العمل والكسب الحلال.
– عمل دورات ومحاضرات لتطوير مهارات الشباب العاطفية والاجتماعية، مثل مهارات التواصل والتعبير عن الأفكار والمشاعر، والتعامل مع الضغوط الحياتية وحل المشكلات بشكل بناء وإيجابي.
وأخيراً، فإن المسجد يعتبر قلب المجتمع المسلم، وشريان حياته الاجتماعية؛ فيجب أن نتفطن لدوره المنشود، ونسعى جاهدين بكل ما أوتينا من قوة أن نعيد للمسجد رسالته السامية، ومكانته التي كان عليها في صدر الإسلام، ليعيش المسجد في عصورنا الدور الذي عاشه في عصور الرعيل الأول، فأهمية المسجد لا تقتصر على كونه مكاناً لأداء الصلوات، بل هو أهم مكان للمجتمع الإسلامي.
والله أسأل أن يوفقنا لأن نكون أهلاً لحملة دينه، ومشاعلاً لتبليغ رسالته.