في عالم مواز ربما لا يعرفه الكثيرون، تتواجد مجموعات من الشباب الملحد المهموم بمستقبل الإلحاد في بلادنا، يلتقون في أمسيات شعرية أو قصصية أو ربما لمشاهدة مسرحية أو مناقشة كتاب، بينهم من التواصل الحميمي الشيء الكثير ويقدمون الخدمات لبعضهم بعضاً.
فالمجموعة التي تعرفت عليها أثناء دراستي الجامعية في أواخر التسعينيات تبوؤوا جميعاً مناصب إعلامية وثقافية مرموقة بدعم من قيادتهم خارج أسوار الجامعة، أذكر كيف اجتذبت هذه المجموعة واحدة من صديقاتي، كانت طالبة في الفرقة الأولى فتاة هادئة لا تمتلك علاقات اجتماعية، تنتمي لأسرة بسيطة وتعاني من عدم اهتمام أسرتها بها، كان لدى الفتاة محاولات أولية لكتابة القصة القصيرة، فاشتركت معهم في أحد الأنشطة المعنية بالأدب، وسرعان ما تحول النشاط الأدبي لحياتها الحقيقية، فهذه هي المرة الأولى التي تشعر فيها الفتاة بهذا الاهتمام والتواصل، لقد اقتربت منهم نفسياً وعاطفياً قبل أن تناقش أي أفكار، أحدهم بالتحديد كان مميزاً مثقفاً، وكما قالت لي: «دودة قراءة»، كان يمتلك طريقة خاصة جداً في الكلام، أذكر ألمها وهي تحكي عن تجربته التي سردها عن والده الذي كان يصلي بالناس إماماً في مسجد صغير وكيف كان يضربه لأجل الصلاة -خاصة صلاة الجمعة- وكيف كان دائماً ما يرهبه بالله الذي سيحرقه بالنار، ولكنه كره هذا الإله القاسي ثم وفي مرحلة لاحقة كفر به وأنكر وجوده!
كانت صديقتي مستعدة للإيمان بما يطرح من قبل أن يقدم لها بعض الكتب التي تنتقص من الدين وتسخر من أساطيره وخرافاته التي تستخدمها النظم المتسلطة لاستعباد الشعوب، وعن تحالف الاستبداد مع رجال الدين لسحق الشعوب!
كانت صديقتي تتحول وهي تشعر أنها صاحبة رسالة وقضية، صديقتي التي لم تكن تعرف إلا قشوراً من الثقافة الدينية، حتى إنها لم تكن تصلي؛ أصبحت خبيرة في نقد الأحكام الشرعية، الفتاة الهادئة أصبحت حادة الطباع لاذعة النقد شديدة السخرية بالغة الاندماج في مجتمعها الجديد، تجاوزت علاقتها بزميلها الملحد كل الخطوط الحمراء حتى تؤكد له أنها انسلخت بالفعل من كل التقاليد الراكدة التي كانت تكبلها وأنها تمتلك كامل الحرية على جسدها.
المؤسف أنها رغم اعترافها في لحظة صدق (بعد أن هجرها) أنه استغلها، فإنها لم تكن تملك بعد كل ما قامت به إلا أن تستمر على السير في نفس الطريق، وانتهت بها الحال كصحفية في واحد من أشهر المواقع الإلكترونية للملحدين العرب.
الإلحاد الجديد
مع بداية الألفية الجديدة، أصبح التيار الإلحادي أكثر تطرفاً في مواقفه وتبنى مجموعة من المفكرين والكتّاب الملحدين فكرة أنه لا يجب التسامح بسهولة مع الخرافات والأديان واللاعقلانية.
والإلحاد الجديد مصطلح صاغه الصحفي اللا ديني جاري وولف في عام 2006 ليصف الرؤية التي يتبناها بعض ملحدي القرن الحادي والعشرين الذين يعتبرون الإلحاد هوية ويتخذون موقفاً شديد العدائية من الدين، ولديهم رغبة في القضاء على كافة المعتقدات الدينية، وانعكس ذلك الفكر على الملحدين العرب، فنظرة لموقع الحوار المتمدن أو صفحة الملحدين العرب على «فيسبوك» سنجد إستراتيجية الإلحاد وقد تغيرت من المطالبة بحرية المعتقد سواء كان إيماناً أو إلحاداً للهجوم المباشر على الدين، واعتباره ساماً وضاراً، حتى وصل بهم الأمر لاعتبار تعليم الأطفال مبادئ الدين لوناً من ألوان الاعتداء على الطفولة(1).
وأصبح الشباب العربي في مرمى نيران هذا الإلحاد الجديد، وما الدعوة لـ«الجندرة» وحماية حقوق مجتمع الميم والحرب على الحجاب إلا تطبيقات عملية لهذا الإلحاد، ولم يعد الشباب بحاجة لكتب وصالونات ثقافية كما حدث مع صديقتي إبان الجامعة، فالإعلانات الممولة تقتحم عليه حسابه الشخصي، و«الميديا» تجعل من كل صاحب فكر خرب رمزاً للتحرر، وكثير من الشباب العربي الملحد الآن عندما تناقشه تجده فخوراً بفكرة الاختلاف عن «القطيع المؤمن!»، يرى نفسه أكثر ذكاء وعقلانية، والأهم أكثر شجاعة، وهذا يعبر بوضوح عما يعتريه من هشاشة نفسية ورغبة في إشباع الحاجة للتقدير حتى يقاوم بها مشاعر الخواء والعدمية المقترنة بالإلحاد.
الإلحاد الروحي
على أن هناك لوناً آخر من الإلحاد بات يستشري في الأوساط الشبابية؛ ألا وهو الإلحاد الروحي الذي اعتبره أشد خطراً من الإلحاد التقليدي حتى في صورته المتطرفة، الإلحاد الروحي هو الإلحاد الناعم الذي لا يتطرق لنفي وجود الإله الخالق بكلمة، ولكنه يتجاهله ويستبدله إلى الطاقة الكونية التي نستمد منها القوة التي علينا أن نتعلم قوانينها كقانون الجذب فنتعلم كيف نجذب طاقة الصحة والوفرة، وعلينا في ذلك أن نهتم بمسارات الطاقة والشاكرات حتى نستطيع الاتحاد بهذه الطاقة الكونية أو الطاقة الحيوية، وعلينا أن نمارس التأمل بطريقة «المانترا» أو بطريقة اليقظة الذهنية؛ نتنفس بطريقة «البراناياما»(2) لتحقيق الهدف ذاته(3).
وفي الوقت الذي يحاول بعض مدربي الطاقة الحيوية المسلمين الاجتهاد وإضفاء غلالة شرعية على هذه المعتقدات باعتبار أن الله سبحانه وتعالى هو خالق هذه الطاقة الكونية، أو أنها فيض منه سبحانه (وفقاً لنظرية الفيض الفلسفية)، لكن المتعمق في هذا التوجه سيكتشف أنه سيقع في فخ الإلحاد ولكن بطريقة عكسية، فأنت تبدأ بممارسة شعائر إلحادية بديلة كـ«اليوجا»، و«التأمل التجاوزي» (المانترا) كلون من الرياضة الجسدية وأسلوب للاسترخاء النفسي، ثم تتدرج فيما يطلق عليه رحلة الوعي حتى تصل لمرحلة «النيرفانا» أو الفناء والاتحاد بهذه الطاقة الكونية، إنها فلسفة وحدة الوجود الإلحادية التي تزعم أن الله سبحانه والخلق شيئاً واحداً.
انتشرت هذه الفلسفة في الغرب بطريقة هائلة كرد فعل على الإلحاد المتطرف الذي يقدس المادة والذي يؤلم المشاعر الإنسانية الفطرية التي تدرك أن هذا الكون وهذا الوجود يتجاوز المادية والتجريب، فكان أن وجدت في فلسفات الشرق القديمة التي تم إعادة تدويرها بطريقة متوافقة مع الإنسان المعاصر ودمجها مع ما يطلق عليه برامج وتدريبات تنمية الذات؛ فأشبعت الجانب الروحي لديهم دون أن يتكبدوا عناء العبادات وحدود الحلال والحرام، ودون أن يتغير نمط حياتهم المادي، ودون التطرق لمفهوم الإله، فكانت طاقة الحياة أكثر قبولاً لديهم، ثم وكالعادة انتقلت هذه الفلسفة التي تعتمد على التطبيق والممارسة قبل التنظير لبلادنا ولشبابنا وحققت النجاح نفسه، وهي وإن كانت على مستوى القاعدة الشعبية تحاول التوافق مع الدين، حتى روج بعضهم أن ممارسة هذه التقنيات تساعد على الخشوع في الصلاة، وإتقان حفظ القرآن، وبعضهم جعلها مساوية من حيث القيمة لممارسة الصلاة، وكأن الهدف الأساسي من الصلاة هو الاسترخاء النفسي وليس عبادة إله هذا الكون، ولكن في المستويات المتقدمة يتوجه المؤمنين بطاقة الحياة لهذه الطاقة الكونية بما يشبه الشعائر الدينية الوثنية حتى الوصول لحالة الاستنارة، وهنا يتوقف قانون «الكارما»، وتنتهي معاناة الإنسان من الألم وتتحد روحه بطاقة الحياة.
وهكذا يقع شبابنا بين مطرقة طاقة الحياة الكونية ووحدة وجود بلا خالق، وسندان الخلية الأولى التي وجدت بعد العدم، ثم تطورت عبر قانون الصدفة حتى تشكل هذا العالم دون خالق أيضاً، والحاجة ماسة لإعادة حقائق الإيمان الفطرية للشباب، وسط عالم محبط يفقده إنسانيته حتى يقع فريسة لإلحاد مادي أو يحاول النجاة منه فيقع فريسة لإلحاد روحي؛ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ) (الطور).
__________________________________
(1) من المهم في هذا الصدد مراجعة كتاب «فطرية الإيمان» لعالم الإدراك الديني جستون باريت الذي يثبت بالتجارب أن الأطفال يولدون مؤمنين بالله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة».
(2) «تنفس البرانا ياما» هو التنفس الطاقي، فكلمة «البرانا» تعني طاقة الحياة، و«ياما» تعني السيطرة باللغة السنسكريتية القديمة.
(3) لمزيد من التفاصيل راجع كتاب «المذاهب الفلسفية الإلحادية الروحية وتطبيقاتها المعاصرة» للدكتورة فوز عبداللطيف كردي.