تحلُّ الذكرى السنوية لسقوط القسطنطينية في 21 جمادى الأولى857هـ/ 29 مايو 1453م، مع جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية التركية في 28 مايو 2023 التي تحتل أهمية دولية؛ نظرًا لاختلاف سياسات وتوجهات المرشحَيْن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وزعيم المعارضة كمال كيجدار أوغلو، حيث أظهرت نتيجة الجولة الأولى تقارب المرشحَيْن، وأبدت الدول الأوروبية عدم رغبتها في استمرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رئيساً للبلاد، والعمل على دعم منافسه، وبدا ذلك في تصريحاتها المعادية لأردوغان، الأمر الذي يثير الذهن حول أسباب العداء الأوروبي لتركيا في ظل وجود الرئيس أردوغان في السلطة، ومدى علاقة ذلك بالموروث التاريخي للصراع بين الدولة العثمانية وأوروبا!
فتح القسطنطينية.. من أهم أحداث التاريخ العالمي
لم تنس أوروبا مرارة هزائمها التاريخية في حروبها مع الدولة العثمانية (1300 – 1924م) التي استمرت نحو 6 قرون كانت قوة عالمية في قرونها الأولى، وهزمت التحالف الأوروبي في عدة معارك فاصلة، ومنها: معركة «كوسوفو» عام 791هـ/ 1389م، ومعركة «نيقوبوليس» عام 799هـ/ 1396م، ومعركة «فارنا» عام 848هـ/ 1444م.
وخضعت دول جنوب شرق أوروبا للسلطان العثماني، وكان أعظم تلك الانتصارات العثمانية على أوروبا التي ما زالت ماثلة بالأذهان سقوط «القسطنطينية» على يد السلطان العثماني محمد الفاتح التي استعصت على المسلمين منذ القرن الأول الهجري، وقد بدأ هجوم الجيش العثماني الشامل بقذف أسوار المدينة يوم 20 جمادى الأولى 857هـ/ 28 مايو 1453م، ثم بدأ الهجوم الشامل فجر اليوم التالي، وانهالت القذائف تدك أسوار القسطنطينية حتى سقطت المدينة التليدة التي ظلت عاصمة الإمبراطورية الرومانية لأكثر من ألف عام منذ أسسها الإمبراطور قسطنطين الأول (272-337م)، وأسماها الفاتح «إسطنبول»؛ أي دار الإسلام.
وكان لسقوط القسطنطينية صدى كبير؛ فابتهجت البلاد الإسلامية بهذا النصر العظيم، في حين عمّ الحزن والأسى سائر أوروبا، وعُدَّ من أكبر وقائع التاريخ العالمي، وكان تأثيره كبيراً على مستقبل أوروبا، وبداية لعصر جديد، وعبر عن ذلك المستشرق فيليب مانسيل، في كتابه الذي يحمل عنوان «القسطنطينية.. المدينة التي اشتهاها العالم».
وأصبح العثمانيون همًّا كبيرًا يجثم فوق صدور أوروبا يسلبهم النوم بعد الهزائم التي ألحقوها بالجيوش الأوروبية، فكانوا في أوروبا يصلون من أجل أن يحفظهم الرَّبُّ من «التركي الرهيب» على حد تعبير المستشرق أجوستون.
أصداء التاريخ والعداء الأوروبي لتركيا
إن تاريخ الصراع العثماني الأوروبي، والحملات الصليبية على الشرق الإسلامي لم تنسها ذاكرة الأوروبيين والمتعصبين ضد الإسلام التي ظهرت مع صعود اليمين المتطرف للسلطة بأوروبا، وهو ما تجلى في الرفض الأوروبي لانضمام تركيا للاتحاد الأوربي الذي تقدمت به منذ عام 1959، بالرغم من التحول الكبير الذي طرأ على تركيا عقب إسقاط الخلافة العثمانية منذ قرن من الزمن، وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك، وسير تركيا على نمط الحضارة الغربية، إلا أن الدول الأوروبية رفضت رفضًا قاطعًا انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وقدمت تركيا خلالها الكثير من الإجراءات التي تناولت مسارها السياسي وقوانينها، ونص دستورها على علمانية الدولة، وتبنت الكثير من العادات والتقاليد الأوروبية؛ فاتخذت العطلة الأسبوعية السبت والأحد، وابتعدت عن الموروث الإسلامي والثقافي للشعب التركي، ولم يُجدِ ذلك في قبول عضويتها حتى اليوم؛ لأنهم أحفاد العثمانيين.
ترفض فرنسا والنمسا وهولندا وألمانيا انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بتصريحات دبلوماسية خلافًا للحقيقة، ومنهم من يعلن السبب الرئيس للرفض صراحة، فيقول بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر، عام 2006م: «إن مكان تركيا بين دول العالم العربي والإسلامي، وليس بين دول الاتحاد الأوروبي، وإن مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أمر خطير يجب تفاديه؛ فلا يمكن القبول بإدخال 72 مليون قنبلة موقوتة داخل الاتحاد الأوروبي»، في إشارة إلى عدد سكان تركيا في ذلك الوقت.
إن الحروب الصليبية لم تُنس من ذاكرة الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن عندما قام بغزو أفغانستان متهمًا تنظيم «طالبان» بالمسؤولية عن تفجيرات 11 سبتمبر 2001م في أمريكا، حيث أعلن عن بدء العملية العسكرية بوصفه لها بأنها «حملة صليبية»، ولما بدت حالة من الاستياء في العالم الإسلامي من هذا التصريح أعلن البيت الأبيض أن بوش يشعر بالأسف لاستخدامه هذا التعبير، وعبر بوش لاحقًا أن تلك الجملة «زلة لسان»!
وفي يوم الجمعة 15 مارس 2019، نُفذ هجوم إرهابي بإطلاق النار على المصلين في مسجد «النور» ومركز «لينود» الإسلامي في مدينة كرايستشرش في نيوزلندا أسفر عن مقتل 51 مسلمًا وإصابة العشرات، وصرح مرتكب الجريمة في وثيقة بثها عبر وسائل التواصل أنه استهدف المسلمين كشكل من أشكال الانتقام من الإسلام لمدة 1300 عام من الحرب والدمار الذي جلبه على شعوب الغرب والعالم، ودعا إلى استعادة القسطنطينية.
إن أحداث التاريخ وخاصة تاريخ الدولة العثمانية أجداد تركيا المعاصرة وصراعها العسكري مع أوروبا ما زال ماثلًا في أذهان رجال السياسة والحكم والمعادين للإسلام في العالم، وما زال له تأثيره في مواقف أوروبا تجاه تركيا، وله أثر في الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، بالرغم من أنهم نسوا ما فعلته ألمانيا بدول أوروبا من دمار وقتل الملايين من مواطنيها في الحربين العالميتين؛ الأولى (1914 – 1918م)، والثانية (1939 – 1945م)، واعتبرته من أحداث التاريخ التي انتهت، وارتبطت ألمانيا ارتباطًا وثيقًا بدول الاتحاد الأوروبي.
إن أوروبا لن تسامح تركيا على ما فعله أجدادهم العثمانيون معهم، وهو ما عبَّر عنه المفكر الألماني المسلم بقوله: «إن الغرب متسامح بدرجة كبير مع كل المعتقدات إلا الإسلام».
لماذا ترفض أوروبا سياسة أردوغان؟
منذ تولي رجب طيب أردوغان رئيسًا للوزراء لتركيا (2002- 2014)، ثم رئيسًا للدولة (2014 – مايو 2023)، انتهج سياسة الاستقلال الاقتصادي حتى استطاع سداد ديون تركيا، وقام بدعم الصناعات التركية حتى أصبحت قوة اقتصادية دولية.
وتعتبر أوروبا سياسة أردوغان في السياسة الإقليمية والدولية محاولة إنتاج تركيا العثمانية في ثوب معاصر بما تحمله تلك الصورة من خلفيات تاريخية؛ إضافة إلى اعتبارهم الرئيس أردوغان المسؤول عن الإسلام وشؤون المسلمين في أوروبا، وبدا ذلك في كثير من تصريحات الساسة الأوروبيين المعادية لتركيا والرئيس أردوغان التي كان آخرها حرق المصحف الشريف في يناير 2023م أمام سفارة تركيا في كل من السويد وهولندا والدنمارك؛ وهو ما دفع الرئيس أردوغان إلى تجديد إعلان رفضه لانضمام هولندا لحلف «الناتو» وهي تسمح بتلك الأفعال.
إن ظهور قوة تركيا على الساحة الدولية لا يريح الغرب، وقد عبر عنه الرئيس الأمريكي بايدن في وعوده الانتخابية عام 2020م بقوله: «تركيا هي المشكلة الحقيقية هنا، وسيكون لي حوار مغلق حقيقي مع أردوغان وتعريفه بأن سيدفع ثمنًا باهظًا على ما فعله».
من ناحيته، أكد الرئيس أردوغان، في نوفمبر 2020، أن الجهات المعادية لم تستطع إخضاع تركيا عبر حيل الوصاية والإرهاب والانقلابات، ولم تستطع وضع الأصفاد في أقدام تركيا عبر التلويح بالحصار الاقتصادي؛ وأنهم لن يستطيعوا هزيمتها اقتصادياً.
وكان دعم الرئيس أردوغان لقضايا العالم الإسلامي مقلقًا للجانب الأوروبي بصفة خاصة؛ فبالرغم من أن تركيا تربطها بـ«إسرائيل» علاقات دبلوماسية، فإن أردوغان داعم قوي للقضية الفلسطينية في كثير من المواقف والأحداث التي تمر بها القضية، فيبذل جهودًا كبيرة محاولًا رفع الحصار عن غزة، وعندما أعلن ترمب اعترافه بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، في 6 ديسمبر 2017م؛ أعلن أردوغان أنه سيحشد العالم الإسلامي ضد هذا القرار، ودعا العالم على الاعتراف بالقدس عاصمة لفلسطين، وعقدت في أنقرة يوم الأربعاء 13 ديسمبر 2017 قمة لدول منظمة التعاون الإسلامي لصياغة رد مشترك على قرار الرئيس الأمريكي.
وقامت تركيا بطرد السفير «الإسرائيلي»، في مايو 2018 عقب قيامها بمجزرة على حدود قطاع غزة استشهد فيها 61 فلسطينيًّا و2270 جريحًا.
إن السياسة التركية للرئيس أردوغان على الساحة الدولية وتعاظم قوة تركيا في عهده أمر لم تعتده أمريكا والدول الأوروبية في القرن الماضي، ووجوده في السلطة يشعرهم بالقلق!