نشبت الحرب الحالية في السودان لتحقيق هدف سياسي؛ هو تسلم الحكم وسيطرة «قوات الدعم السريع» على البلاد، وحسب الشواهد كان مقدراً لها ألا تستمر أكثر من ساعات يتم فيها اعتقال أو اغتيال قيادة الجيش الحالية والسيطرة على القواعد الجوية لمنع سلاح الجو من التحرك وتحييد القوات في الولايات من التدخل وإذاعة بيان سياسي من القصر الجمهوري والإذاعة والتلفزيون.
قبل بداية الحرب، كانت قوات الدعم السريع منتشرة في كل موقع إستراتيجي يضمن لها السيطرة، وهي المسؤولة عملياً عن حماية هذه المواقع، لكن فشل السيطرة على قيادة الجيش أفقد القوات المتحركة النجاح خاصة مع بسالة الحرس الجمهوري وجنود القيادة.
بعد امتصاص الصدمة، بدأ الجيش في تطبيق إستراتيجية الدفاع في العمق، ومن ثم وصلت مجريات الأمور للجلوس للتفاوض بعد ثلاثة أسابيع من القتال، ولمعرفة حقيقة هذا التفاوض وما يمكن أن يؤدي إليه نجمل النقاط التوضيحية التالية:
1- «قوات الدعم السريع» ليست حركة مطلبية ولا جماعة سياسية، بل قوة إسناد عسكرية يشملها مبدأ وحدة القيادة والسيطرة، ومنع تعدد الجيوش بقيادات منفصلة في دولة واحدة كما يؤسس علم الأمن الوطني.
2- خلال الحرب تم انتهاك حرمات أعيان مدنية منصوص عليها في القوانين التي تحكم الصراعات والحروب الخارجية والداخلية، مثل المستشفيات والمرافق الخدمية من مياه وكهرباء، وكذلك دواوين الحكومة ومكاتبها ومؤسساتها كالإذاعة والتلفزيون والقصر الجمهوري والقيادة العامة؛ ما يمثل جريمة إنسانية وجريمة حرب، كما أن أي هدنة دون حماية هذه الأعيان مجرد وعود لا يعتد بها.
3- وقف الحرب قرار سياسي، وتخطئ القوى السياسية السودانية كثيراً بابتعادها عن تحمل مسؤوليتها المباشرة في إدارة الدولة والوجه المدني للأزمة والصراع، فمن غير المعقول أن تقول: «الجيش للثكنات»، ثم تترك لهم مسؤولية إعلان الحرب وكيفية إنهائها وتوقيت ذلك؛ فإيقاف الحرب تدابير سياسية عديدة تتطلب عملاً سياسياً يتسامى فوق عملية تسجيل نقاط في الخصم السياسي في وقت الحرب وانتظار نهايتها لاقتسام الغنائم (للعسكر إدارة المعركة، لكن إدارة الدولة للمدنيين وقد غابوا عن ذلك).
فتحمل المسؤولية في هذا الجانب يتطلب شجاعة مواجهة حلفائك وممن معك أكثر من مواجهة الخصم السياسي، وذلك لإنتاج خطاب وطني أعلى صوتاً من الرصاص، وأوسع من الانتماء السياسي والأيديولوجي.
4- بناء على ما سبق، يتضح أن التفاوض يندرج تحت مسؤوليات العسكريين، ولن يتجاوزوا بند الترتيبات الأمنية وشروط الهدنة وفتح الممرات الإنسانية، مما يدخل في إدارة المعركة، ولا يدخل في الترتيبات السياسية لإدارة الدولة ومستقبلها.
5- الحرب أبعد كثيراً من مجرد معركة الخرطوم التي شارفت على نهاياتها.
الحرب أبعد كثيراً من مجرد معركة الخرطوم التي شارفت على نهاياتها
مآلات معركة الخرطوم
تمثل العمليات التي دارت خلال الفترة الأخيرة محاولة من «قوات الدعم السريع» لتسجيل نقاط في معركتها التي فقدت الهدف السياسي الدافع لها، وأصبحت عملية عسكرية بلا غاية، إنها بحق ستكون نقطة اللاعودة لـ«الدعم السريع»، حيث أصبح وضعها في خارطة الخرطوم مجرد مجموعات متناثرة بلا قيادة موحدة، والقرار العسكري فيها عند القادة الميدانيين القريبين من بعضهم، ويمكنهم التواصل دون القدرة على الحشد أو الانفتاح، ودون معرفة الهدف الكلي للمعركة يصبح تحديد الأهداف العسكرية مصادفة دون ترابط يطور من الموقف العملياتي الكلي، وهي ظروف تجعل الهروب من المعركة الخيار الأول لتجمعاتها المنعزلة أو حين ضربات الطيران أو التمشيط المنظم.
هناك مجموعة من الأخطاء الإستراتيجية ارتكبتها قيادة «الدعم السريع»، وتسببت في خسارتها لحرب كانت تبدو مضمونة، وتم التحضير لكل تفاصيلها منذ 4 سنوات بدقة متناهية في حساب الأفراد عند التجنيد، والتسليح مع التدريب، والانفتاح في المراكز الحساسة، وبناء معسكرات تضمن خنق التحركات والسيطرة من كل جانب، وقد تمثلت الأخطاء الإستراتيجية في التالي:
1- التفاؤل الكبير بالوضع الميداني قبل إطلاق الرصاصة الأولى، وعدم حساب المتغيرات غير المنظورة، هنا يمكن حساب استبسال 35 من شهداء الحرس الجمهوري وزملائهم الذين أفشلوا خطة اغتيال رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبدالفتاح البرهان، أو إلقاء القبض عليه، ومن ثم مهدوا الطريق لإفشال موجة الهجوم الأولى على القيادة العامة.
2- التحرك المتزامن والانفتاح الواسع جداً، حيث اندلعت الحرب في 18 ولاية سودانية في وقت واحد؛ ما رفع درجة الاستعداد لكل وحدات القوات المسلحة فوراً في الوقت نفسه في كل البلاد، وكان يمكن حدوث استرخاء في الولايات واعتبار الأمر مجرد سوء فهم وحادث عرضي يمكن احتواؤه في الخرطوم، بالإضافة إلى أن التحرك المتزامن أضعف قدرة قيادة «الدعم السريع» على إدارة المعركة الكلية، وتركت الأمر لقيادة وحداتها لإدارة المعارك بشكل منفصل حتى وصل الأمر إلى درجة أن وحدات من الدعم السريع في الفاشر ونيالا خرجت من المعركة مبكراً، ووقعت اتفاقات هدنة مع الجيش برعاية مجتمعية محلية، وهي على الحياد إلى اليوم رغم استمرار معركة الخرطوم.
3- عدم التنوير الكافي من قيادة «الدعم السريع» لضباطها؛ فمن بين 480 ضابطاً من القوات المسلحة ملحقين بـ«الدعم السريع» رجع الجميع لوحداتهم ما عدا 3 فقط، كما سلمت وحدات كاملة من «الدعم السريع» نفسها في أكثر من 6 ولايات دون أن تدخل في المعركة، هذا الأمر سرع في حسم الحرب في الولايات ووجدت «قوات الدعم السريع» نفسها تقاتل في الخرطوم وحدها.
4- الفشل الكبير في استلام المطارات من وادي سيدنا إلى مطار الأبيض إلى القاعدة الجوية في جبل أولياء، ومع أول طلعة طيران للمشاركة في المعركة انكشفت «قوات الدعم السريع» تماماً، وتغيرت المعركة لصالح القوات المسلحة.
أقرب السيناريوهات انتصار الجيش ونهاية «الدعم السريع» كفصيل سياسي
كما ساهم في فشل «الدعم السريع» عدم قدرتها على الاحتفاظ بمطار مروي، ويبدو أن قيادتها حسبت حسابات خاطئة حوله، وضخمت من أهميته الإستراتيجية، وتسببت مروي في فقدان «الدعم السريع» للتعاطف الإقليمي وأثارت حوله الشكوك خصوصاً في حادثة أسر الجنود والطيارين المصريين والمساومة بهم، واضطرت في النهاية إلى تسليمهم رغماً عنها ودون شروط.
وقد أسهمت هذه المعركة في تفكيك «قوات الدعم السريع» وزيادة انتشارها مع صعوبة القيادة والسيطرة، وكان نجاح القوات المسلحة فيها نهاية مرحلة امتصاص الصدمة والانتقال إلى إدارة المعركة حسب خطتها.
5- نجاح القوات المسلحة في استباق عمق «الدعم السريع» وضرب كل تحركات الإمداد القادمة من الغرب إلى الخرطوم، وتدمير أكثر من ألفي عربة مسلحة وناقلات تشوين في الصحراء، مع عدم قدرة «الدعم السريع» على فتح خطوط إمداد أخرى أو حساب تكلفة الحرب الحقيقية التي تحتاجها، والبناء على أن الحرب ستكون هجوماً خاطفاً لن يستغرق ساعات.
6- في معركة الخرطوم اتضح أن التمسك بمعسكرات «الدعم السريع» -رغم انتشارها في عمق إستراتيجي يضمن لها السيطرة- خطة فاشلة لعدم كفاءة مضادات الطيران العادية في صد أي هجوم طيران من أي نوع، رغم ادعاءات ثبت كذبها عن إسقاط طائرات، وأصبحت المعسكرات الثابتة أرض قتل معدة وجاهزة، اضطرت «الدعم السريع» للهروب منها بما تبقى من قواتها.
7- الخطأ الإستراتيجي القاتل كان في التوقع الخاطئ بأن الجيش سيطارد «الدعم السريع» في الأحياء السكنية وفي المستشفيات؛ ففي الوقت الذي كان الجيش يوسع بهدوء ودون استعجال من دوائر التأمين حول القيادة العامة ومواقعه الإستراتيجية العسكرية الأخرى؛ كانت «الدعم السريع» تحتل المستشفيات وتطرد المرضى وتحولها لقواعد عسكرية، وتحتل البنايات العالية وتطرد منها السكان، وتنشر القناصة على أسطحها.
وبدا لوهلة أنها سيطرت على ولاية الخرطوم بالكامل بمدنها الثلاث، لكن سرعان ما تكشف الخطأ الإستراتيجي في هذا الانتشار الواسع بمساحة 23 كم2، وبدا أن «قوات الدعم السريع» منتشرة في مناطق لا علاقة لها بالمعركة العسكرية الدائرة، وأعطت القوات المسلحة الفرصة الكافية لتنفيذ إستراتيجيتها المتمثلة في قطع خطوط الإمداد.
لذلك بدت السيطرة الواسعة مجرد شَرَك كبير وقعت فيه «قوات الدعم السريع»؛ فبدأت في التحرك المستعجل لإحراز النقاط، ونسبة لعدم قدرتها على الحشد توجهت نحو الوحدات الفنية للجيش لتحقيق نصر معنوي، وهنا وقعت في الشَّرَك؛ فبمجرد خروجها تحولت لصيد سهل وتم استنزافها بنجاح كبير أكسب القوات المسلحة الثقة في خطتها.
كما أن المعارك في وسط بحري اقتصرت أحياناً على مواجهات ضعيفة، وانتقل القتال الضاري للأطراف في مناطق الكدرو والجيلي؛ ما يشير إلى أن «قوات الدعم السريع» تسعى لفتح ثغرة في جدار تطويق الجيش، لتستفيد من دعم تجمعاتها بتلك الأطراف أو التواصل مع مجموعات هناك، وهذا يعني بوادر تراجع التركيز على منطقة بحري، وبالتالي التأكيد على صحة التقديرات أن معركة المنطقة الحمراء تتحول لصالح الجيش.
إذن، الجيش يتقدم من الجنوب من مناطق سلاح المدرعات والذخيرة بمنطقة الشجرة جنوب الخرطوم ومنطقة جبرة نحو منطقة العمارات، وهي بلا وزن من الناحية العسكرية، رغم اجتهاد «الدعم السريع» في دخول مواقع عسكرية ليست ذات قيمة كفرع الرياضة العسكرية وبعض الرئاسات الإدارية لبعض الوحدات؛ ما يعني تضاؤل الأهداف العسكرية مقارنة بسيطرة مطلقة للجيش على سلاح المدرعات، وتمسكه بتفوق بقاعدة وادي سيدنا، وعزل «الدعم السريع» في أم درمان دون مهدد منظور لسلاح المهندسين والسلاح الطبي وأكاديمية نميري وغيرها.
قيادة «الدعم السريع» ارتكبت أخطاء تسببت في خسارتها للحرب
مشاهد النهاية
من هنا، يمكن القول: إن نهاية الحرب في السودان ستنجلي عن أحد المشاهد التالية:
أولها: انتصار الجيش ودحر «الدعم السريع»، وهو أقرب مشهد ويصدقه تسلسل الأحداث، ويعني نهاية «الدعم السريع» كفصيل سياسي وعسكري.
ثانيها: يمكن أن تسفر مفاوضات جدة من خلال جولاتها القادمة عن اتفاق «طائف جديد» يقنن وجود «الدعم السريع» ليكون أشبه بـ«حزب الله» في لبنان، وهو مشهد مستبعد في ظل انكسار ظهر «الدعم السريع»، لكن الضغوط الدولية قد تكون ساعية في هذا الطريق، لأنه سيضعف الجيش، وسيسهل مؤامرة السيطرة على السودان وموارده.
ثالثها: من المشاهد المستبعدة أن يتحول الصراع إلى حرب أهلية، ذلك أن مسبباتها غير متوفرة، وكل السودانيين ينظرون للحرب على أنها بين الجيش الوطني وفصيل متمرد، ليس له ظهير اجتماعي.
نتوقع خلال الفترة القادمة أن تقوم القوات الخاصة داخل الجيش السوداني بكل عمليات القتال داخل الخرطوم، من خلال عملية نوعية نهارية وليلية لتصفية القادة الميدانيين لـ«الدعم السريع» واستخباراتها، وهذه الطريقة ستعمل على إنهاء المعركة بسرعة وفقدان المتمردين لقادة لا يمكن تعويضهم؛ ما يعجل مشهد نهاية الحرب، إما باستسلام ما تبقى من «قوات الدعم السريع»، وإما بفنائهم.