ولما تسلم السلطان القدس أمر بإظهار المحراب، وحتم به أمر الإيجاب، وكان الداوية قد بنوا في وجهه جداراً وتركوه للغلة هرياً، وقيل: كانوا اتخذوه مستراحاً عدواناً وبغياً، وكانوا قد بنوا من غربي القبلة داراً وسيعة، وكنيسة رفيعة، فأوعز برفع ذلك الحجاب، وكشف النقاب، عن عروس المحراب، وهدم ما قدامه من الأبنية، وتنظيف ما حوله من الأفنية، بحيث يجتمع الناس في الجمعة في العرصة المتسعة.
ونصب المنبر وأظهر المحراب المطهر، ونقض ما أحدثوه بين السواري، وفرشوا تلك البسيطة بالبسط الرفيعة عوض الحصر والبواري، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وحق الحق وبطلت الأباطيل، وتولى الفرقان وعزل الإنجيل، وصفت السجادات، وصفت العبادات، وأقيمت الصلوات، وأديمت الدعوات، وتجلت البركات، وانجلت الكربات، وانجابت الغيايات، وانتابت الهدايات، وتليت الآيات، وأعليت الرايات.
ونطق الأذان وخرس الناقوس، وحضر المؤذنون وغاب القسوس، وزال العبوس والبوس، وطابت الأنفاس والنفوس، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس، وعاد الإيمان الغريب منه إلى موطنه، وطلب الفضل من معدنه، وورد القراء وقرئ الأوراد، واجتمع الزهاد والعباد، والأبدال والأوتاد، وعبدالواحد ووحد العابد، وتوافد الراكع والساجد، والخاشع والواجد، والزاهي والزاهد، والحاكم والشاهد، والجاهد والمجاهد، والقائم والقاعد، والمتهجد الساهد، والزائر والوافد.
وصدح المنبر وصدع المذكر، وانبعث المعشر وذكر البعث والمحشر، وأملى الحفاظ، وأسلى الوعاظ، وتذاكر العلماء، وتناظر الفقهاء، وتحدث الرواة وروى المحدثون، وتحنف الهداة وهدى المتحنفون، وأخلص الداعون ودعا المخلصون، وأخذ بالعزيمة المترخصون، ولخص المفسرون وفسر الملخصون، وانتدى الفضلاء، وانتدب الخطباء، وكثر المترشحون للخطابة، المتوشحون بالإصابة، المعروفون بالفصاحة، الموصوفون بالحصافة.
فما فيهم إلا من خطب الرتبة، ورتب الخطبة، وأنشأ معنى شائقاً، ووشى لفظاً رائقاً، وسوى كلاماً بالموضع لائقاً، وروى مبتكراً من البلاغة فائقاً، وفيهم من عرض على خطبته، وطلب منى نصبته، وتمنى أن ترجح فضيلته، وتنجح وسيلته، وتسبق منيته فيها أمنيته، وكلهم طال إلى الالتهاء بها عنقه، وسال من الالتهاب عليها عرقه، وما منهم إلا من يتأهب ويترقب، ويتوسل ويتقرب، وفيهم من يتعرض ويتضرع، ويتشوف ويتشفع، وكل قد لبس وقاره ووقر لباسه، وضرب في أخماسه أسداسه، ورفع لهذه الرياسة رأسه، والسلطان لا يعين ولا يبين، ولا يخص ولا ينص.
ومنهم من يقول: ليتني خطبت في الجمعة الأولى، وفزت باليد الطولى، وإذا ظفرت بطالع سعدى؛ فما أبالي بمن يخطب بعدي.
فلما دخل يوم الجمعة رابه شعبان؛ أصبح الناس يسألون في تعيين الخطيب السلطان، وامتلأ الجامع، واحتفلت المجامع، وتوجست الأبصار والمسامع، وفاضت لرقة القلوب المدامع، وراعت لحلية تلك الحالة وبهاء تلك البهجة الروائع، وشاعت من سر السرور بلبس حبر الحبور الشوائع، وغصت بالسابقين إليها المواضع، وتوسمت العيون، وتقسمت الظنون.
وقال الناس: هذا يوم كريم، وفضل عميم، وموسم عظيم.
هذا يوم تجاب فيه الدعوات، وتصب البركات، وتسال العبرات، وتقال العثرات، ويتيقظ الغافلون، ويتعظ العاملون، وطوبى لمن عاش، حتى حضر هذا اليوم الذي فيه انتعش الإسلام وارتاش، وما أفضل هذه الطائفة الحاضرة، والعصبة الطاهرة، والأمة الظاهرة! وما أكرم هذه النصرة الناصرية، والأسرة الإمامية، والدعوة العباسية، والمملكة الأيوبية، والدولة الصلاحية! وهل في بلاد الإسلام أشرف من هذه الجماعة، التي شرفها الله بالتوفيق لهذه الطاعة؟!
وتكلموا فيمن يخطب، ولمن يكون المنصب، وتفاوضوا في التفويض، وتحدثوا بالتصريح والتعريض، والأعلام تعلى، والمنبر يكسى ويجلى، والأصوات ترتفع، والجماعات تجتمع، والأفواج تزدحم، والأمواج تلتطم، وللعارفين من الضجيج، ما في عرفات للحجيج، حتى حان الزوال، وزوال الاعتدال، وخيعل الداعي، وأعجل الساعي، فنصب السلطان الخطيب بنصه، وأبان عن اختياره بعد فحصه، وأوعز إلى القاضي محيي الدين أبي المعالي بن زكي الدين علي القرشي بأن يرقى ذلك المرقى، وترك جباه الباقين بتقديمه عرقي، فأعرته من عندي أهبة سوداء من تشريف الخلافة، حتى تكمل له شرف الإفاضة والإضافة، فرقى العود، ولقي السعود، واهتزت أعطاف المنبر، واعتزت أطراف المعشر.
وخطب وأنصتوا، ونطق وسكتوا، وأفصح وأعرب، وأبدع وأغرب، وأعجز وأعجب، وأوجز وأسهب، ووعظ في خطبتيه، وخطب بموعظتيه، وأبان عن فضل البيت المقدس وتقديسه، والمسجد الأقصى من أول تأسيسه، وتطهيره بعد تنجيسه، وإخراس ناقوسه وإخراج قسيسه، ودعا للخليفة والسلطان وختم بقوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان»، ونزل وصلى في المحراب، وافتتح بسم الله من أم الكتاب، فائتم بتلك الأمة، وتم نزول الرحمة، وكمل وصول النعمة.
ولما قضيت الصلاة انتشر الناس، واشتهر الإيناس، وانعقد الإجماع واطرد القياس، وكان قد نصب للوعظ القبلة سرير، ليفرعه كبير، فجلس عليه زين الدين أبو الحسن علي بن نجا، فذكر من خاف ومن رجا، ومن سعد ومن شقي ومن هلك ومن نجا، وخوف بالحجة ذوي الحجا وجلا بنور وجلا عظاته من ظلمات الشبهات ما دجا، وأتى بكل عظة، للراقدين موقظة، وللظالمين محفظة، ولأولياء الله مرققة ولأعداء الله مغلظة.
وضج المتباركون، وعج المتشاكون، ورقت القلوب، وخفت الكروب وتصاعدت النعرات، وتحدرت العبرات، وتاب المذنبون، وأناب المتحوبون، وصاح التوابون، وناح الأوابون، وجرت حالات جلت، وجلوات حلت، ودعوات علت، وضراعات قبلت، وفرض من الولاية الإلهية انتهزت وحصص من العناية الربانية أحرزت.
وصلى السلطان في قبة الصخرة، والصفوف على سعة الصحن بها متصلة، والأمة إلى الله بدوام نصره مبتهلة، والوجوه الموجهة إلى القبلة علية مقبلة، والأيدي إلى الله مرفوعة، والدعوات له مسموعة، ثم رتب في المسجد الأقصى خطيباً استمرت خطبته، واستقرت نصبته.
____________________
من كتاب «الفتح القسي في الفتح القدسي.. حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس».