جاء في مقدمة العلامة ابن خلدون باب عن الشعر ضمنه فصلاً ذكر فيه شروط عمله، وسنذكر بعضاً مما جاء فيه على اختصار.
لعمل الشعر وإحكام صناعته شروط:
أولها: الحفظ من جنسه (أي من جنس شعر العرب) حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب، وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من فحول الإسلام، مثل ابن أبي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي وأبي فراس وأكثره شعر «كتاب الأغاني»؛ لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية.
ثم لابد من الخلوة واستجادة المكان المنظوم فيه باشتماله على مثل المياه والأزهار وكذا استجادة المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور.
ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط، فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه: قالوا وخير الأوقات؛ لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر: وما يكون من بواعثه العشق والانتشاء.
قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر ولا يكره نفسه عليه.
وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه يضعها ويبني الكلام عليها إلى آخره؛ لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها، فربما تجيء نافرة قلقة، وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به، فإن كل بيت مستقل بنفسه ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد، ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة، فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو بنات فكره واختراع قريحته، ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة.
وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة، إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة، ويجتنب أيضاً المعقد من التراكيب جهده بحيث تكون ألفاظه على طبق معانيه ومعانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم، ويجتنب أيضاً الحوشي من الألفاظ والمقصر، وكذلك السوقي المبتذل فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضاً فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة وفي هذا القدر كفاية.
وهذا قدر مجمل في الكلام عن صناعة عمل الشعر، ولا شك أنه إذا روعي فسيزول كثير مما ينتشر في واقعنا من سلوك التمشعر لا الشاعرية.