عرفت أمتنا خللاً كبيراً حين ربطت تيارات ماركسية وعلمانية بين التحديث والغرب، وطال ذلك النظرة للدين، فأصبحوا ينظرون للوحي المقدس بمعايير الفلسفة الغربية المادية القائمة على مبدأ الشك وإهدار كل ما هو ثابت ومقدس، في إطار الصراع التاريخي بين الكنيسة والمجتمع في أوروبا، وهو صراع لم تعرفه بلداننا، ولكن النخب استوردته.
وقد ناقشنا في الحلقة السابقة مفهوم الاجتهاد الصحيح ومواطنه وتحدياته العصرية، وننطلق الآن لفهم الخلل الذي أصاب هذا المفهوم.
التنوير المزيف وأهله
لقد ادعى بعض المنتسبين للفكر العربي الإسلامي والمؤمنين بنظرية التطور لداروين أن الإنسان أصله قرد! وتناسى قول الله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر: 29)، أو قوله عز وجل: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، وغيرهما من الآيات التي تشرح خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام من صلصال من طين وهبوطه إلى الأرض.
وهناك صنف من المفكرين المتعلمنين يحتقرون السُّنة المطهرة، ويتجرؤون على رواتها، ويصفونهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أنه يصعب في زماننا تصور دقة نقل رواية كما فعل رواة الحديث حين كانوا يجوبون الأصقاع للتأكد من حديث واحد للنبي صلى الله عليه وسلم، وأسسوا لعلم الرجال وطبقاتهم ليصنفوا الروايات صحيحها وسقيمها، وهؤلاء يحاولون هدم الدين نفسه من بوابة الحديث، بل ويتجاهلون صريح قول الله عز وجل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر: 7)، وقوله: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59)، ولولا حجية السُّنة المطهرة لما علمنا بكيفية الوضوء ولا الصلاة ولا الحج ولا سائر العبادات، ولما علمنا بكثير من تفسير آيات الله جل وعلا.
واليوم نرى إعلاميين مرموقين وكتَّاباً صحفيين ومفكرين يتسيدون منصة المؤتمرات الكبرى ويقدحون في الصحابة والأولياء، بل ويسائلون الوحي الإلهي، القائمة طويلة والأسماء معروفة، ود. نصر حامد أبو زيد، مثلاً، كان يتحدث عن كون القرآن نصاً تاريخياً، وهو بذلك ينفي صلاحيته لزماننا، أما د. حسن حنفي فكان يرى أن النبوة مسألة مرتبطة بصفات الشخص فإذا كان مؤهلاً صار نبياً هكذا ببساطة! ورفض المعجزات، ورفض بعض أسماء الله الحسنى! وكان خطابه مغلفاً بما يحبه المثقفون العالميون من أن القرآن لا تحليل فيه ولا تحريم ولا تقييد بل ازدهار وحياة، وهكذا أدخلنا في تمييع كل ما هو شرعي وكل الحدود، بل واعتبر أن علم العقيدة نفسه ليس مقدساً، ولكنه نابع من اختيارات سياسية! (انظر: «التراث والتجديد»، و«تثوير الدين»، و«دراسات إسلامية» لحسن حنفي).
الدعوة نفسها وجدناها عند الأب الروحي للتنويريين محمد أركون الذي جعل المركزية في الكون للإنسان لا الوحي الإلهي، وجعل القرآن كتاباً خاضعاً للمناقشة وكافة الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل. (انظر: الفكر الأصول عند محمد أركون).
وكان د. محمد شحرور يدخل من بوابة إعادة تقديم معان جديدة لغوية تلوي عنق المصطلحات الشرعية كالصلاة، واستنكر أن يكون الويل والعذاب جزاء للساهين عن الصلاة، بمعناها كعبادة، قائلاً: من المستحيل أن يستوي في عدل الله سبحانه المسلم المؤمن المقصر في أداء الشعائر، والمكذب المجرم الكافر بوجود الله والمنكر للبعث ولليوم الآخر، فقال بأن الصلاة هنا هي صلة العبد القلبية بربه، فلو أنكرها العبد لاستحق هذا العقاب.
وسار تلامذة هؤلاء على دربهم، والأمثلة أكثر من أن تحصى!
من أين بدأ الخلل؟
في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001م، بدأ نوع جديد من الخطاب الفكري في الانتشار داخل الأوساط العربية، متبنياً لغة جديدة في قراءة وتفسير التراث الإسلامي، تستورد مصادرها الفكرية من المكتبة الحداثية الغربية وتُصدّرها إلى القارئ العربي، الذي يعرّفه على أنه إعادة إنتاج للخطاب الاستشراقي الذي يتعامل مع التراث الإسلامي بأدوات العلوم الاجتماعية -لا العلوم الشرعية- فيحاكمه بقوانين لا تصلح له، وقد سطع نجم هذا العلم المسمى بـ«الفيلولوجيا» إبان القرن التاسع عشر، الذي يعني بتحليل النصوص اللغوية المبكرة ثقافياً، وبينها النصوص المقدسة. (د. إبراهيم السكران، التأويل الحداثي للدين).
انتهت قراءة أغلب المستشرقين ومن خلفهم الحداثيون العرب إلى تقنيتين في قراءة التراث الإسلامي، أولاً: تقنية التوفيد، ويُقصد بها إعادة الموروث الثقافي الإسلامي إلى أقرب ثقافة تشريعية وافدة، ويقولون: إن المسلمين استوردوها وركبوها من جديد من حضارات كانت سائدة في زمانهم، كما قال بروكليمان: «إنما ترجع معتقدات محمد فيما يتعلق بالعالم الآخر إلى مصادر يهودية، وهكذا تتصل بصورة غير مباشرة بمصادر فارسية وبابلية قديمة»، ورأينا حديثاً من يتبنى مثل تلك الأفكار ومنهم هشام جعيط مثلاً حين يقول: «إن التأثيرات المسيحية على القرآن أهم بكثير من التأثيرات اليهودية»، أمَّا أحمد أمين فقد جعل عقيدة السلف في إثبات الصفات الإلهية الاختيارية نظرية مستوردة من اللاهوت اليهودي.
ثم كانت تقنية التسييس في الاستشراق؛ وهو جعل الهدف عند العلماء مدفوعًا بدوافع السلطة وتملقها دون أي اعتبارات أخلاقية أو موضوعية، فقدم نصر حامد، مثلاً، بحثًا للترقية بعنوان «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية»، ادعى فيه أن الشافعي يقوم بمهمة سياسية من أجل بني أمية، برغم أن دولة بني أمية كانت قد انتهت أصلاً بمقتل آخر خلفائهم مروان الحمار عام (132هـ) قبل ولادة الشافعي عام (150هـ)، ثم ادعى المؤلف لاحقا أنه أخطأ في كلمة الأمويين، وأنه كان يريد أن يكتب العلويين! (السكران، مصدر سابق).
جهود عربية لتجديد الخطاب الديني
استطاعت المؤسسات الدينية الكبرى في عالمنا العربي أن تطور اليوم نسقاً كاملاً لتجديد الخطاب الديني بعد العديد من المستجدات التي جعلت الأمر أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، وفي مصر اجتمع مفتو ورؤساء المجامع الفقهية العرب في مؤتمر الأزهر العالمي لبحث «التجديد في الفكر الإسلامي» عام 2020م، وخرجت توصيات تشير لعدم المساس بقواعد الدين الراسخة والنصوص القطعية في ثبوتها ودلالتها، أما النصوص ظنية الدلالة فهي محل الاجتهاد، وتتغير الفتوى فيها بتغير الزمان والمكان وأعراف الناس، شريطة أن يجيء التجديد فيها في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة، ومصالح الناس.
كما أكدوا أن التجديد صناعة دقيقة، لا يحسنها إلا الراسخون في العلم، وعلى غير المؤهلين تجنب الخوض في الموضوع حتى لا يتحول التجديد إلى تبديد.
وأكد المشاركون أن التيارات المتطرفة، وجماعات العنف الإرهابية يشتركون جميعاً في رفض التجديد، ودعوتهم تقوم على تزييف المصطلحات الشرعية، مثل مفهومهم عن نظام الحكم، والحاكمية، والهجرة، والجهاد، والقتال، والموقف من مخالفيهم، فضلاً عن انتهاكهم ثوابت الدين بما يرتكبونه من جرائم الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض، وهو ما شوه صورة الإسلام وشريعته عند الغربيين ومن على شاكلتهم من الشرقيين، وتسبب في ربط الكثيرين بين أفعالهم المنحرفة وأحكام الشريعة، ورواج ما يسمى بـ«الإسلاموفوبيا» في الغرب، ومن ثم فإن واجب المؤسسات والمجتمع دعم جهود الدول في التخلص من شرور تلك الجماعات.
كما أن الواجب توضيح الشبهات ومن ذلك مفهوم «الهجرة» الذي لا يعني اللحوق بالجماعات المسلحة في الصحراء ومحاربة المجتمعات ووصمها بالكفر، فهذه حرابة لله ورسوله وإفساد في الأرض، يجب التشديد على مرتكبه، بل الهجرة هي هجرة ما نهى الله ورسوله عنه، وترك المعاصي، مع إباحة الهجرة لطلب العلم والرزق ما أمن المسلم على دينه ونفسه، كما أن الجهاد ليس القتال في الإسلام، فقد كان قتال الصحابة دفعاً لعدوان المشركين وليس لقتل المخالفين في الدين كما يزعم المتطرفون، أما الخلافة فهي ليست واجبة وأي نظام حكم لا يتعارض مع شرع الله ويحقق مصالح المسلمين فهو شرعي، كما أنه لا تعارض بين كون الدولة ديمقراطية دستورية حديثة، يعيش المواطنون فيها على حد سواء بمبدأ المواطنة، واحتكامها لأحكام الشريعة الإسلامية كمرجعية دستورية، فهذا لا يعني بحال أنها دولة دينية، فالإسلام أرسى دولة مواطنة وتعايش.
وشدد المجتمعون أن الإلحاد خطر يعمل على ضرب الاستقرار في المجتمعات التي تقدس الأديان، وهو أحد أسلحة الغزو الفكري، التي يراد من خلالها بدعوى «الحرية الدينية» هدم الأديان، وهو سبب مباشر من أسباب التطرف والإرهاب.
وفي هذا السبيل رأينا مساعي جادة من المؤسسات الدينية لتدشين منصات ومؤسسات لمواجهة الفكر المنحرف، والشبهات التكفيرية والعلمانية على حد سواء، وبينها في الكويت وثيقة كبرى لتجديد الخطاب الديني وأقرتها دول الخليج عام 2021م، برعاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وأكدت أن خلاصة التجديد المأمول أن كل ما يهون من المسلَّمات الدينية فليس من التجديد في شيء، كما أن كل ما يخل بالضروريات والمصالح العليا فهو إلى التبديد أقرب منه إلى التجديد.