حتى هذا العناء، لم تظفر به تلك الأم، فهي تنبش هنا وهناك عما تبقى من جثة ابنها لتدفنه، مرارة أخرى تضاف لمرارة القتل غدرًا بأبشع الطرق.
هذه الأم هاجرة تشاتيتش (هاجرا كاتيك) فقدت ابنها ناهد تشاتيتش الذي كان آخر نذير لنا بسقوط سربرنيتسا في يوليو 1995م، كان آخر صرخة استنجدت بهذا العالم الذي يخضع لمعايير غير الإنسانية والقانون، لم يستجب أحد حتى قُتِل الجميع في بضعة أيام.
الحزن لا يفرق بين الأمهات الثكالى؛ فألم الفقد والغدر والشعور بالخذلان واحد، وطريق النضال واحد، لكن تختلف الصورة من قصة لأخرى، قصة كل أُم ثكلى تبحث عن فقيدها، تذكرني بأنتيجون، تلك التراجيدية الإغريقية التي كتبها سوفوكليس عام 441ق.م، تحدت الفتاة أنتيجون ظلم الطاغية كريون وسألت أختها إسمين المساعدة لكنها تخاذلت، خوفاً من عقاب كريون، فتولّت وحدها أمر تكريم جثة أخيها ودفنتها.
أحكي لكم قليلاً عن الابن نهاد تشاتيتش (نينو)، فبالكاد غادر نينو سربرنيتسا، حيث فتح عينيه على العالم في 29 أغسطس 1969، أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في مسقط رأسه، عاش أفضل أيام حياته في مسقط رأسه وجمع ذكرياته الأكثر خصوصية في مسقط رأسه، غير مدرك أن الحرب التي ستندلع في سن 20 ستغير حياته تماماً، عاش الشاب حياة كان يجب أن تذهب مع والدته هاجرا، ووالده جنوز كاتيتش، وقضى بعض الوقت مع أصدقائه.
في 4 أبريل 1992م، جاء إلى سربرنيتسا من نوفي ساد (صربيا، الاتحاد اليوغسلافي سابقاً) لقضاء عيد الفطر مع عائلته، بقي نينو في سربرنيتسا حتى 11 يوليو 1995م، وأبلغ طوال الوقت عن أحداث الحرب من هذه المدينة.
كان متحمساً لنشر قصائده من الشعر الحر في المجلات الأدبية، وكتب مسرحيات منها «الخارجون عن القانون»، وكان يعمل أيضاً في الراديو كهاوٍ، قام بتحرير الصحيفة المحلية «صوت سربرينتسا» (Srebrenički glas)، وكان أحد المثقفين الناشطين في سربرنيتسا، كان صوت الجيب (الوحيد) إلى العالم الخارجي، فسربرنيتسا لم تغطها وسائل الإعلام الأجنبية أو المحلية.
«صوت سربرنيتسا»، كان يعلن دائماً عن تزايد عدد اللاجئين، والمجاعة التي وصلت إلى أبعاد مميتة، والوفيات الناجمة عن الأوبئة والكآبة التي حلت على المدينة مع اقتراب صيف عام 1995م، منذ ما يقرب من عامين ونصف عام، كان يجلس أمام الميكروفون كل يوم تقريباً ويواصل كفاحه باستخدام السلاح الوحيد الذي كان بحوزته، كان لاجئاً حبيساً مع 50 ألفاً من اللاجئين المحبوسين في هذا الجيب، تحت مسمى المناطق الآمنة من عام 1993م، حتى سقوطه بيد الصرب وتواطؤ القوات الهولندية والأمم المتحدة في يوليو 1995م، كان صوت اللاجئين إلى العالم.
ونُشر له كتاب بعد وفاته، يحمل نبرة من الحزن وبصيصاً من الأمل، وجدت ورقة قديمة كان كتبها في مارس 1993م.
ولأنه عايش المدينة المحبوسة تحت مسمى «منطقة آمنة»، فإنه يصف الظروف المعيشية البائسة والفقيرة لـ50 ألف لاجئ في سجن مفتوح تحت عيون الأمم المتحدة بدعوى حمايته حتى يوليو 1995م، والتساؤلات الفلسفية لشاب يعيش الحرب والموت والفقر يوماً بعد يوم لأنه مسلم، بينما العالم يتفرج عليه ويسمح بقتله يوماً بعد يوم.
سربرنيتسا.. 10 يوليو 1995م
في العاشر من يوليو 1995م، حين سلمت الأمم المتحدة، وبشكل أكثر دقة الكتيبة الهولندية، المنطقة المحمية إلى أيدي المجرم راتكو ملاديتش، بنبرة أكثر يأساً مما كان عليه في الأيام السابقة كانت آخر استغاثة وقال: «سربرنيتسا تتحول إلى أكبر مسلخ، يجلبون باستمرار القتلى والجرحى إلى المستشفى، من المستحيل وصفها، هل سيشهد أي شخص في العالم المأساة التي حلت بسربرنيتسا وسكانها؟
«سربرنيتسا تتحول إلى أكبر مسلخ، يجري سحب القتلى والجرحى باستمرار إلى المستشفى، من المستحيل وصفها، في كل ثانية، تسقط 3 مقذوفات قاتلة على هذه المدينة، ويجري حاليا نقل 17 قتيلاً و57 مصاباً بجروح خطيرة وطفيفة إلى المستشفى، هل يمكن لأي شخص في العالم أن يأتي ليرى المأساة التي تحدث لسربرنيتسا وسكانها؟ وهذه جريمة شنيعة ارتكبت ضد السكان البوشناق في سربرنيتسا، السكان في هذه المدينة يختفون، سواء كان أكاشي (الممثل الشخصي للأمين العام حينها)، أو بطرس غالي (الأمين العام للأمم المتحدة حينها)، أو أي شخص آخر وراء ذلك، أخشى أنه لن يكون مهماً بالنسبة لسربرنيتسا»، قال نينو كاتيتش في التقرير الأخير لراديو وتلفزيون البوسنة والهرسك «RTV BiH».
عندما أنهى الشاب البث ولم يتكلم مرة أخرى، كان النداء الأخير، حين انقطع بث إشارة الراديو.
11 يوليو 1995م
تتذكر هاجرا، والدة نينو، أن آخر مرة رأت فيها ابنها كانت في 11 يوليو، قال لها: «أمي، أنت ووالدي تذهبان إلى بوتوتشاري، وسأذهب مع أصدقائي عبر الغابة إلى توزلا».
أمضى الوالدان الليل في إحدى القاعات مع حوالي 5 آلاف شخص، ليتم فصلهما في الصباح عند دخول ناقلات مختلفة، بعد ذلك، لم ير أحد نينو مرة أخرى.
بعد ذلك، لم يعد هناك اتصال بالمدينة حتى من رئاسة البوسنة والهرسك آنذاك، فانطلق نينو وزملاؤه، التوأم سيد وسيناد داوتيباسيتش، اللذان قدما من سربرنيتسا، وحاولوا الهرب من قبضة الصرب عبر غابات بودرينيي، لكنهم لم يصلوا إلى الأراضي الحرة، لاحقاً دُفِن الأخوان داوتباسيتش في مركز بوتوتشاري التذكاري بعد الحرب، بينما لم يُعثَر على رفات نينو.
جرى التعرف على 90% من رفات زوجها، يونوز (يونس) في عام 2005م، اكتشفت أنه قُتل في كوزلوك، على ضفاف نهر درينا.
رحلة عذاب عبر البحث الطويل
قيل لها: إن ابنها شوهد في آخر مكان هنا، ثم قيل لها: إنه كان جريحاً! لكنه لم يصل لأي مكان، فقد انفجرت قذيفة من الصرب، ورحل، لم تعرف الأم مثل بقية الأمهات مصير أبنائهن لوقت طويل، لا أحد يعرف أين اختفى نحو 10 آلاف رجل وصبي في أقل من 4 أيام، ظن الجميع أنهم في مراكز اعتقال تحت الاستجواب، لكن أحدهم لم يظهر، مر أسبوع، بدأت الأخبار تتوالى تباعاً من نذر قليل من الناجين الذين أبلغوهم بمصير رفاقهم، لقد قتلهم الصرب جميعاً، أين الدليل؟ أين الجثث؟ أين المقابر؟ لا أحد يجيب، كان على الأمهات أن يكافحن لعقود حتى تحصل على ما تبقى من رفات الأزواج والآباء والأبناء والإخوة، مهمة ثقيلة للغاية، لكن هذه الأم لم تحصل ولا على عظمة واحدة من رفات ابنها! كانت تقول: لو أني فقط أحصل على عظمة واحدة من بنان ابني؛ لأدفنه وأستريح!
تقول: إن آخر كلماته هي ما تصحو عليها كل يوم ترن في أذنيها.
هاجرا تشاتيتش تستمع إلى كل المعلومات الجديدة من عمليات استخراج الجثث، وتذهب إلى المشرحة حيث توجد رفات سكان سربرنيتسا المقتولين، وتنتظر نتائج تحليل الحمض النووي من أجل إبلاغها أنهم عثروا على رفات ابنها (نينو).
كلما يخبرها شخص ما بمعلومة عن آخر مكان شوهد فيه ابنها، تذهب وتبحث عن أي بقايا بشرية مهما كانت خطورة المكان، لدرجة أنها ذهبت في مكان ملغم مرة وانتظرت حتى نزعت الألغام وآثار الحرب في مكان آخر، تمر الأيام، والنهاية؟ لم يُعثر على ابنها، إن صحتها تتدهور يوماً بعد يوم.
يعرف الصرب جيداً أين دُفِنت الجثث، ويعرفون القبور الثانوية والثالثية التي نقلوا إليها الجثث المختلطة بالجرافات فتقطعت أوصالها وتمزقت، وتسبب في أن تكتشف العظام لشخص واحد في عدة أماكن متباعدة، وربما هناك جثث دُفِنت في صربيا، حيث لا حد للظلم، يرفضون الإدلاء بأي معلومات، بل إنهم حتى اليوم ينكرون ما حدث رغم الدلائل والفيديوهات المسربة والاعترافات والشهادات، ورغم المحاكمات الدولية، لكنهم لا يتنازلون أبدا عن العناد والإنكار، فقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد حقا.
تبحث الأم هنا وهناك، تقف مع نابشي القبور والأراضي، تظفر بجمجمة، تقربها منها وتقول ربما هذه جمجمة ابني؟! تأخذها إلى مركز التعرف على المفقودين- رغم خطورة ما تفعله- يأخذون العينات اللازمة لمطابقتها مع حامضها النووي، تنتظر، تدعو الله، تتألم، في النهاية، الجمجمة ليست لابنها.
حياة حزينة لكنها تمضي ولا تعرف اليأس
لم تفكر الأم المكلومة أبداً في مغادرة سربرنيتسا، وهي تعتقد أنه مع الاستثمار، سيعود الشباب البوشناق ويعيدون الحياة والازدهار إلى مسقط رأسها، وهي الآن قائدة لجمعية أمهات سربرنيتسا، ويشاركن في مسيرة احتجاجية في الحادي عشر من كل شهر للمطالبة بالعدالة لضحايا المجزرة بلا ملل.
«يجب أن أبقى مشغولة، ويجب أن نستمر في الحديث عن هذا، حتى لا ينسى العالم، لو كان الصرب يعرفون مقدار القلق والضوضاء التي سنصدرها نحن النساء، فمن المحتمل أن يكونوا قد قتلونا أيضاً في عام 1995».
عام 2020 شيء من التكريم والذكرى سلوى للقلب الحزين
وفي عام 2019م، فكر بعض الصحفيين في إنشاء جائزة باسمه لإنقاذ اسمه من النسيان خاصة صرخته الأخيرة من سربرنيتسا، جاء في موقع جمعية «أن تكون صحفياً»: صوت لا يمكن لأي إنسان أن يظل محصناً ضده، خاصة حتى صرخته الأخيرة من سربرنيتسا، هذا الصوت لا ينسى، إنه يثير مليون شعور، ويخلق صوراً وحالات رعب حدثت لسربرنيتسا، يجبرك على الرد، لفعل شيء حتى لا ينسى، لذلك، من واجبنا نحن الصحفيين ألا ندع اسمه يقع في غياهب النسيان، لا يستطيع.
وأعربت هاجرا تشاتيتش عن ارتياحها لإطلاق جائزة تحمل اسم ابنها، قالت: «اعتقدت حقاً أن نينو قد نُسي، لكن هذا ليس بفضل الشباب الذين أنظر إليهم كأبنائي».
قالت أمينة هودزيتش، إحدى المبادرين لفكرة إنشاء هذه الجائزة: إن واجبنا جميعاً، كصحفيين في المقام الأول، هو الكتابة والتسجيل والتحقيق، دعونا لا ننسى أبداً ولا ندع الآخرين ينسون كل ما حدث.
تقول: إن بعض العمال الصرب يأتون أحياناً لإصلاح شيء ما في بيتها، لكنهم يتجنبون الحديث عن الحرب أو النظر إلى الصورة المعلقة حيث ابنها وزوجها، ذات مرة، جاءها أحد الصرب، مع ابنه لإعداد الإنترنت، نظر إلى الأعلى وقال: «يا إلهي، كنت أعرف هذا الرجل»، كان يعمل في مصنع مع زوجها قبل الحرب.
عام 2021م.. النهاية
لسوء الحظ، لم تتحقق رغبتها، وكثيراً ما كانت تخبر وسائل الإعلام أنها تعاني من نقص المعلومات حول المقابر الجماعية في البلاد، مما زاد من تعقيد العملية، كرست حياتها كلها تناضل مثل كل أمهات سربرنيتسا من أجل الحقيقة والعدالة للضحايا، كانت نشطة حتى آخر أيامها كانت تأمل أن تطمئن قبل وفاتها إلى أن سيعرف شخص ما على الأقل أن ابنها موجود، ويكون هناك قبر له على الأقل.
رحلت هاجرة في نوفمبر عام 2021م، ولما تنل ما تريد من أن تجد ولو عظمة واحدة من رفات ابنها لتدفنه دفناً كريماً، رحم الله العائلة التي التاعت لسنوات بسبب مجرمي الصرب.