على مرأى ومسمع من العالم، تابع الجميع أهوالاً لم تشهدها المنطقة من قبل بفلسطين المحتلة، حيث تدفع المرأة الفلسطينية؛ زوجة وابنة وأماً وأختاً، ثمناً باهظاً من حياتها وحياة أسرتها كاملة، دون أن نسمع صوتاً واحداً من تلك الأصوات التي اعتدنا سماعها عادة حين يكون الحديث خاصاً برداء المرأة وخروجها للعمل وتخليها عن مسؤولياتها الطبيعية والفطرية.
لم نسمع نداء بإغاثة المرأة الفلسطينية التي صرخت حين مات أطفالها جميعاً جياعاً بينما تعد لهم الطعام، وأخرى حين وجدت زوجها شهيداً بين جرحى تضمد جراحهم في مستشفى الشفاء بغزة الذي يئن بشهدائه وجرحاه بعد توقف الخدمة به تقريباً بانقطاع المياه والكهرباء وإمدادات الدواء، وثالثة ورابعة وإلى المئات توارت أنفاسهن تحت التراب مع عائلات كاملة بنسائها وشيوخها وأطفالها.
لم نسمع صوتاً للمنظمات الدولية والعالمية والمحلية يطالب أحدهم بوقف تلك الوحشية لتجنيب النساء والأطفال ويلات الحرب البشعة لا لذنب، إلا لأن شعباً يرفض التخلي عن أرضه والخروج منها لشتات جديد.
وبينما تستغيث نساء غزة ربها في الشوارع بالآلاف بعد إسقاط بيوتهن بأطنان من المواد الحارقة والمحرمة دولياً، لا تدري إلى أين تتجه وبأي شيء تحتمي، تصمت كافة المنظمات التي تقتات على ما يسمى بحقوق النساء في العالم، لتظهر حقيقة الأمر بأن المقصود من جملة تلك الحقوق المراد الحفاظ عليها، حقوق التعري والتخلي عن عقيدة تثبت كل يوم أنها أقوى من كل ما يراد بها.
حقوق المرأة الفلسطينية تاريخياً
والمرأة الفلسطينية هي امرأة مقدرة في مجتمعها وأسرتها، لم تطالب يوماً بحقوق تحصل عليها بطبيعة الحال في الدولة الفلسطينية المحتلة، حيث تحرص معظم الأسر الفلسطينية على تعليم بناتهن حتى ما بعد الجامعة مثلها مثل أقرانها من الذكور، وحيث بلغت نسبة الأمية في غزة، على سبيل المثال، صفر بالمائة، وقد أعلن الكيان المحتل أن الفلسطينيين ينافسوهم في حقلين مهمين، غير أنهم يتفوقون في أحدهما وهما العلم والإنجاب، فالمرأة الفلسطينية التي تجاهد جنباً إلى جنب مع الرجال تتفوق على نظيرتها في العالم بالعلم وبأعلى نسبة خصوبة على الإطلاق.
وبالرغم من أن الحركة الإسلامية العربية همشت المرأة كثيراً ونحتها عن الوصول لمراكز القرار بحجج تعيشها نظيرتها الفلسطينية، فإن المرأة هناك تمتعت بالوصول لأبعد من تلك المراكز، مراكز فرضتها الحاجة والواقع الأليم الذي تعيشه، فسمعنا عن أم نضال فرحات خنساء فلسطين، وكم من خنساء مثلها سطرن أسمى آيات الثبات والنضال والبطولة والصبر على أرض فلسطين الحرة، ووقفت المرأة جنباً إلى جنب مع شقيقها الرجل، حملت السلاح وحاربت وقامت بعمليات استشهادية بطولية لن ينسها التاريخ لها، مثل وفاء إدريس التي قامت بأول عملية استشهادية من رام الله، وريم الرياشي، وعبلة طه، ولطيفة الحواري، وغيرهن الكثيرات ممن لا يتسع مقال لذكرهن والتعريف بهن.
وقد فرض الواقع المر الذي تعيشه فلسطين المحتلة واقعاً أكثر مرارة على النساء هناك، فرض عليهن تحمل تبعات الجهاد من الفقدان المستمر علاوة على تربية أجيال تتوالى تحمل القضية وتعيش بها وتموت في سبيلها، ولولا الحضور الكبير والوعي العميق والفهم الدقيق لنساء فلسطين إلى جانب رجالها لضاعت قضيتهم وأرضهم في غياهب المفاوضات، ولهربت تلك الأجيال خارج جحيم العدو منذ زمن.
وقد أثر هذا الواقع على استقرار نساء فلسطين فتركن حياة الدعة، فمنذ بداية الصراع عام 1948م في أول تهجير للشعب الفلسطيني تم تهجير مئات الآلاف من النساء بعد مجازر سجلها التاريخ، وما زلن لاجئات حتى اليوم؛ مما أثر بشكل مباشر على مستقبلهن وأمانهن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي دون الاعتداد بأي قوانين دولية.
وترتقي النساء شهيدات نتيجة القتل الجماعي على مدى تاريخ الاحتلال، ففي عدوان عام 2014م وحده ارتقت 489 امرأة، وأما في «طوفان الأقصى» اليوم فيبلغ حتى الآن عدد من استشهدن ربع العدد الإجمالي للشهداء، وما زال الرقم مرشحاً للزيادة، هذا فضلاً عن التشريد والتجويع والملاحقة التي تقوم بها الطائرات الحربية شمالاً وجنوباً لأسر كاملة في الشوارع بعدما قتلت أسراً كاملة أيضاً ومحتها تماماً من مكاتب السجل المدني، وبالرغم من مناداة البعض باحترام القوانين الإنسانية مع المدنيين عامة والنساء والأطفال خاصة الذي تعبر عنه اتفاقية جنيف 1949 والبروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف 1979م حيث تنص المادة (76) على أنه «يجب أن تكون النساء موضع احترام خاص»، والمادة (17): «تؤكد ضرورة نقل النساء من المناطق المحاصرة».
الرعاية الواجبة لنساء فلسطين
إن هناك الكثير من التحديات التي تواجهها المرأة الفلسطينية كي تستطيع الاستمرار في أداء واجبها ومهمتها العظمي في تحرير كامل التراب الوطني والوصول بأسرتها لبر الأمان، وهناك واجبات عدة تقع على عاتق الأنظمة العربية والإسلامية.
والجانب الأكبر الذي يقع على عاتق نساء فلسطين قد قمن به على أعلى المستويات الإنسانية، فقد نهضت بذاتها علمياً وسياسياً واجتماعياً، فرأيناها في التدريس والطب والعلوم الإنسانية والعلوم البحتة، وجدناها مجاهدة، وجدناها سياسية بارعة، وجدناها مناضلة قوية، وجدناها أماً متفردة في تربيتها لشباب تربوا على حب الوطن وحب الشهادة في سبيله، وجدناها زوجة تدفع زوجها للجهاد وتكمل الطريق خلفه بعد ارتقائه لربه شهيداً، وقد قامت بنفسها بإنشاء العديد من المؤسسات والجمعيات التي تعني بأمرها وبأمر قضيتها.
وأما ما يقع على عاتق الأنظمة الإسلامية وليس العربية وحدها فهو تخصيص جزء من ميزانية تلك الدول لصالح القضية الفلسطينية عامة، ولصالح نساء وأطفال فلسطين خاصة، أيضاً يتوجب على تلك الأنظمة الضغط الشديد على الكيان وداعميه بإنقاذ نساء فلسطين وتوفير الحماية اللازمة لهن خاصة في فترات النزاع المسلح بين الكيان والمقاومة الباسلة، ويقع كذلك عبء على المنظمات الإنسانية والنسائية العربية والإسلامية بتكوين ما يشبه «اللوبي» الإسلامي واستخدام حملات المقاطعة الاقتصادية والسياسية، وتفعيل الآلة الإعلامية لفضح ممارسات الاحتلال تجاه النساء والأطفال.
لقد آن الأوان أن تدرك الأمة أن قوانين الأمم المتحدة لم توضع لحماية المستضعفين أو الحفاظ علي حقوقهم، وإنما وضعت كسيف على رقابهم ومحاسبتهم إذا طالبوا بحقوقهم المشروعة، إن العالم لا يحترم إلا الأقوياء، ولا يقدر إلا أولئك الذين ينتزعون حقوقهم قسراً، وغداً سوف نرى كيف تجبر المقاومة الجميع على تلبية طلباتها خاصة بعد تلك المعركة الأخيرة.
ولقد صار واجباً إسلامياً وأخلاقياً أن يقف المسلمون صفاً واحداً لإنقاذ نساء فلسطين وتقديم واجب الدعم المعنوي والمادي قبل أن يصير عاراً تاريخياً لن تغفره الأجيال المقبلة أبداً.