يُجمع الملاحظون على أن الحرب الرابعة على غزة ليست كمثيلاتها، بل هناك تصريحات من الطرفين الفلسطيني والصهيوني بأنها معركة فاصلة وحاسمة كل من منطقه.
وإذا كان الأمر كذلك، يجدر التوقف عند أهم ملامح المستقبل من خلال محاولة استشراف أبرز تداعيات هذه الحرب غير المسبوقة على النطاق الإقليمي والدولي، وعلى العنصر المسلم داخل العالم الإسلامي وخارجه.
صدمة السابع من أكتوبر!
إن أول ما يتم تسجيله الصدمة التي أحدثتها هجمات المقاومة يوم السابع من أكتوبر، في ظل شبه قناعات لدى الكثير بأن جيش الاحتلال لا يُقهر، وهي نفس الصدمة التي أحدثها تقهقر الجيش السوفييتي الأحمر وانسحابه المخزي من أفغانستان بعد أن تكبد خسائر فادحة.
إلا أن ارتدادات السابع من أكتوبر أعمق تأثيراً باعتبار المكان والزمان، فالأمر يتعلق بمنطقة جد إستراتيجية، وهي ما يطلق عليها عادة «منطقة الشرق الأوسط»، بما تحمله من موروث ثقافي وحضاري وديني، وما عاشته من أحداث غيرت مجرى العالم، وتكفي الإشارة إلى أنها أرض الأنبياء ومهبط الوحي والمقدسات الكبرى، وهذا البعد الديني والحضاري في حد ذاته يجعل من المنطقة مركز اهتمام الرأي العالمي وقلب التدافع السياسي إقليمياً ودولياً.
أما من حيث الزمان، فإن أحداث السابع من أكتوبر تزامنت مع أوج موجة التطبيع مع المحتل؛ وهو ما يعني تعطل هذا المسار وانكساره ولو إلى أمد قريب، علاوة على طغيان العولمة وتداعياتها على العقليات، ومحاولة حجر التصورات والمفاهيم وتنميط السلوكيات في قوالب مفروضة على الجميع بما يمنع التعدد الثقافي، فتصبح المقاومة إرهاباً، ويصبح الانحلال والتفسخ حرية وتحرراً!
السحر ينقلب على الساحر
وهذا يقود إلى التحول التدريجي في المعادلة التي أراد أن يسوّق لها المحتل؛ وهو التعاطف معه بحجة أنه ضحية الإرهاب، ولكن السحر انقلب على الساحر، فمشاهد المجازر البشعة ضد المدنيين، والعدد الكبير للشهداء من الأطفال والنساء، وقطع أساسيات الحياة عن شعب أعزل، وهذا الكم من الانتهاكات لأبسط الأعراف والقوانين الدولية مثل دك المستشفيات وأماكن العبادة والأسواق، وقتل الصحفيين والعاملين في الحقل الإغاثي والإنساني.. كل هذه الجرائم لم تعد تقنع الرأي العام الغربي أساساً بأنها من باب «الدفاع عن النفس»، وهي السردية التي حرص المحتل على تسويقها لتبرير سياساته؛ الأمر الذي يفسر ارتفاع الأصوات المطالبة بوقف فوري لإطلاق للنار، من أجل إدخال المساعدات الإنسانية، إلا أنه يلاحظ ارتفاع وتيرة الاحتجاج غربياً حيث السند الأكبر للمحتل، وتصاعد مستوى المعارضة لحكومة نتنياهو من مجرد النقد لتصل إلى مستوى الاستنكار، بل المطالبة بمحاكمة من يقف وراء هذه الجرائم، وهو نفس التطور الحاصل داخل المجتمع «الإسرائيلي» الذي يشهد شروخاً عميقة تعمقت بعد عملية «طوفان الأقصى».
وكلما زاد الوضع في غزة كارثية، سنشهد تعاطفاً أكبر مع الشعب الفلسطيني واستنكاراً للإبادة الجماعية لشعب أعزل في القرن الـ21 بما يعود بالبشرية إلى البدائية وجريمة قتل قابيل لأخيه هابيل، في هذا السياق، تأتي استقالة مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان بنيويورك؛ احتجاجاً على الإبادة الجماعية في غزة، معتبراً أن المشروع الاستعماري الأوروبي دخل مرحلة نهائية لتدمير بقايا الحياة الفلسطينية الأصلية، وأن هيئات رئيسة بالأمم المتحدة استسلمت للولايات المتحدة واللوبي «الإسرائيلي».
وعلى ذكر اللوبيات، فإن من أهم ما ستكشفه تداعيات الحرب على غزة حجم تغلغل مجموعات الضغط على صنع القرار في الغرب، بل خارجه.
وهو ما سيقوي شعور تململ، بل قلق الرأي العام الغربي من الجهات الخفية التي توجه دوائر صنع القرار لما يخدم مصالح المحتل.
المشترك الإنساني والانتصار للحق
من ناحية أخرى، أسهمت المحنة الكبرى التي يعيشها الشعب الفلسطيني خاصة ما يتعرض له الأطفال والنساء من إبادة جماعية في غزة في تعزيز علاقات التعاون بين المكون الإسلامي في المجتمعات الغربية وأصحاب الضمائر الحية فيها سواء من النخب أو من العامة.
وحرّكت الأحداث الخطيرة في غزة المشترك الإنساني في مسألة الدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية، وهو أمر يتجاوز الاختلافات الثقافية والعرقية والدينية، وهو مكسب كبير في حد ذاته أمام تصاعد موجة «الإسلاموفوبيا».
كما يلاحظ بداية عودة الوعي بالانتماء للأمة الإسلامية والانتصار لقضاياها العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي تضاءل في العقود الأخيرة بسبب موجة التطبيع، ويكتسي هذا التحول طابعاً خاصاً عندما يتعلق الأمر بالوجود الإسلامي في الغرب، حيث يطغى انتماء المواطنة على الانتماء للأمة، ومن بين الشعارات التي ارتفعت بها حناجر الشباب المسلم خلال عشرات المظاهرات في الغرب وفي العديد من الأقطار الإسلامية «كلنا فلسطينيون»، وتفتقت أذهانهم على أشكال جديدة من النضال والدفاع عن القضية، وهو دليل على بداية وعي بأهمية التلاحم مع قضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
دور النخبة
والمسؤولية ملقاة اليوم على النخبة الفكرية والدعوية والسياسية داخل المجتمع المدني في الإسهام في معركة الوعي، فكل فرد حسب قدرته وظروفه، يلتزم بتوعية من حوله بتحديات الحرب على غزة ورهاناتها وتداعياتها الآنية والمستقبلية.
فهناك البعد التاريخي، وكيف تم زرع هذا الجسم الغريب في قلب الأمة الإسلامية والأطراف المتورطة فيه وتداعياته إلى اليوم، فهذا البعد لا يزال ضبابياً في عقول الكثير منا ومن حولنا خاصة من الشباب، وقد مرت منذ أيام الذكرى 106 لـ«وعد بلفور» (2 نوفمبر 1917م) الذي مهد لإقامة كيان يهودي في قلب منطقة الشرق الأوسط.
وهناك البعد الديني وأهمية هذه الأرض المباركة أرض الأنبياء و«الأقصى» والإسراء.
وهناك البعد الجغرافي الإستراتيجي عن طريق فهم القضية في إطارها الإقليمي (ما يسمى بالشرق الأوسط) وتداعياتها الدولية.
وهناك البعد النضالي من حيث تشجيع التفكير الإبداعي في أساليب دعم القضية العادلة والدفاع عن حقوق الإنسان باستعمال أدوات العصر من وسائل التواصل الاجتماعي واكتشاف وتشجيع المواهب في مختلف الفنون من رسوم وكاريكاتير ومسرح وسينما وصحافة، لخدمة القضية بالكلمة والصورة، في هذ السياق، هناك حاجة كبرى إلى الترشيد إلى فن التبين (فتبينوا) عند الاستماع إلى الأخبار ونقلها.
ويأتي دور النخبة في تقديم القراءة الصحيحة للخبر وتمييز الخبيث من الطيب.
وهناك البعد الاجتماعي التعليمي في ترشيد الخطاب داخل الأسرة وداخل المدرسة وداخل المؤسسات الدينية بخصوص أساليب تناول القضية الفلسطينية، لتعود إلى صدارة اهتمام الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي.
فهناك أدوار كبيرة ومهام جسام تنتظر النخبة في معركة الوعي بالتحديات والرهانات.