قبل أيام حلت الذكرى السادسة بعد المائة للوعد المشؤوم الذي أطلقه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور، في 2 نوفمبر 1917م، إلى اللورد روتشيلد أحد مؤسسي الحركة الصهيونية الذي يعد تعهداً رسمياً من الحكومة البريطانية بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين.
ولم يكن هذا الوعد هو المحاولة الأولى لتحقيق هذا الهدف فقد سبقته محاولة نابليون بونابرت في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر (1799م) عبر ندائه الشهير نداء نابليون، وبين الوعدين (نابليون، وبلفور) 118 عاماً شهدت تحركات مكثفة وجهوداً مضنية ومناقشات ومؤامرات قام بها قادة الحركة الصهيونية بالتعاون مع ساسة كل من بريطانيا وأوروبا لتحقيق هذا الهدف.
ومن المهم التأكيد على أن اهتمام الإمبراطورية الفرنسية (نابليون) والإمبراطورية البريطانية بإنشاء الكيان الصهيوني لم يكن حباً في اليهود ورغبة في أن تكون لهم دولة، وإنما الفكرة استعمارية بحتة، وفي حقيقتها هي –كما يقول البروفيسور عبدالفتاح العويسي- نواة لمشروع صليبي استعماري غربي ينقسم إلى:
– تأسيس الدولة العازل/ «إسرائيل» وتأمين وجودها في الأرض المقدسة (بيت المقدس)، كما كان الحال زمن الحروب الصليبية، عندما أنشأت القوى الغربية مملكة بيت المقدس اللاتينية.
– أنظمة الاستبداد والاستعباد والتبعية في المنطقة العربية، التي هيأت بريطانيا لها الظروف ودعمتها قبل وبعد تأسيس «إسرائيل».
وقد اتفق الباحثون المهتمون بذلك الحدث على أن «وعد بلفور» يمثل الخطوة العملية الأولى نحو إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وهو الهدف الذي فشل في تحقيقه نابليون بونابرت صاحب فكرة الوطن القومي لليهود التي ولدت لديه بعد هزيمته عند أسوار عكا عام 1799م فاتجه للحصول على الدعم اليهودي لحملته العسكرية على الشواطئ الفلسطينية بأي ثمن حيث عانت من صعوبات كبيرة، فولدت لديه فكرة اللعب على مشاعرهم وآمالهم بوطن يجمهم، وخاطبهم بما يتوقون إليه أيها الإسرائيليون انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة، إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملةً إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب العالم. وسمي هذا بنداء نابليون الذي روج له الإعلام الفرنسي حينها جيداً، لكن هذا النداء لم يحقق المطلوب ونامت فكرته بينما واصل نابليون مغامراته العسكرية التي منيت بهزيمة قاصمة عند سهول واترلو في النمسا، وانتهت قيادة نابليون وفرنسا للعالم، واستلم القيادة الإمبراطورية البريطانية التي التقطت مشروع الوطن اليهودي، لأن فوائد قيامه ظلت قائمة، ولهذا حاول وزير خارجية بريطانيا بالمرستن تفعيل الفكرة مرة أخرى في محاولة لاسترضاء اليهود ولضرب مشروع محمد علي لتوحيد مصر عام 1840م، وحاول إقناع الخليفة العثماني بالفكرة لكنه رفض، بينما تحمس اليهود لذلك وسعى البارون روتشيلد لتنفيذ الفكرة بتمويل إنشاء 30 مستوطنة يهودية من أهمها مستعمرة ريشون لتسيون التي يرفع فيها العلم «الإسرائيلي» الحالي.
المؤتمر الصهيوني الأول.. هرتزل
وفي عام 1885م، ظهر مصطلح الحركة الصهيونية لأول مرة على يد الكاتب النمساوي ناتان بيرنبا، وهي مشتقة من كلمة صهيون، إحدى تلال القدس، وكان هدفها الوحيد الاستيطان في فلسطين.
وكان للصحفي الصهيوني ثيودور هيرتزل جهوده في هذا الصدد، وقد نشر كتاباً بعنوان «الدولة اليهودية» باللغة الألمانية، وتمخضت جهوده في صيف عام 1897م بعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، وهو المؤتمر الذي تبنى برنامج تأسيس وطن معترف به للشعب اليهودي في فلسطين.
وتسارعت الخطوات العملية لتحقيق حلم الوطن فتوجه حاييم وايزمان، عالم الكيمياء البريطاني، وعضو الحركة الصهيونية العالمية إلى فلسطين عام 1907م حيث أسس شركة تطوير أراضي فلسطين في يافا بدعم من عائلة روتشيلد.
وفي عام 1915م قدم هيربرت صموئيل، وهو أول صهيونيّ يهودي يصل لمنصب وزاري في بريطانيا لمجلس الوزراء البريطاني مذكرة سرية بعنوان مستقبل فلسطين، جاء فيها: الوقت الحاضر ليس مناسباً لإنشاء دولة يهودية مستقلة؛ لذا يجب أن توضع فلسطين بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة، وعلينا أن نزرع بين المحمديين ثلاثة إلى أربعة ملايين يهودي أوروبي.
وتم الأخذ بتوصية صموئيل في الاتفاقية السرية التي جمعت بريطانيا وفرنسا لتقسيم سورية الكبرى، وعرفت الاتفاقية باسم مهندسيها البريطاني مارك سايكس، والفرنسي جورج بيكو (سايكس/ بيكو)، ووضعت فلسطين تحت سيادة مشتركة للحلفاء لإعدادها للدولة اليهودية.
وبعد عد عام واحد وخلال الحرب العالمية الأولى، وتحديداً 2 نوفمبر1917م وافق مجلس الوزراء البريطاني، برئاسة ديفد لويد جورج، على إصدار وعد بريطاني لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وكانوا يمثلون فيها أقلية بنسبة من 3-5% من إجماليّ السكان، وتمت كتابة الوعد في شكل رسالة من وزير الخارجية آرثر بلفور باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد الصهيوني ليونيل ولتر روتشيلد وجاء فيها: «تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر».
ومن هنا، فإن «وعد بلفور» جاء نتيجة عمل دؤوب امتد نحو 120 عاماً، استخدم فيها يهود أوروبا مختلف أساليب المكر السياسي والاقتصادي لتحقيق حلمهم على حساب الشعب الفلسطينيين صاحب الحق والأرض.
أسوأ كارثة استعمارية
لتبدأ بعد ذلك أبشع محنة كابدها شعب في التاريخ، أو أسوأ كارثة استعمارية ابتليت بها أرض.. وما زالت تلك المحنة تطحن في الشعب.. وما زالت الكارثة تفتت الأرض، وتلتهمها قطعة قطعة.. وفي الرابع عشر من مايو 1948م صدر قرار تقسيم فلسطين من الأمم المتحدة رقم (181)، مانحاً إياها للصهاينة الغاصبين، ومتفضلاً على أصحابها بالباقي من أرضهم.
وسيظل ذلك القرار تجسيداً حياً -عبر التاريخ – على أن الوحش الاستعماري يفرض بجبروته ما يريد، ويوظف الأمم المتحدة خادماً لمشاريعه كـ«حامل أختام»! كل وظيفته أن «يختم» باسم الشرعية الدولية.
ولم يكن قرار التقسيم المشؤوم عام 1948م هو البداية الحقيقية لنكبة الأمة في فلسطين؛ وإنما كان تتويجاً لمرحلة أكثر شؤماً وإيلاماً على الشعب الفلسطيني: بدأت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.. منذ نداء نابليون التاريخي.. حتى «وعد بلفور» عام 1917م.
لقد كانت المرحلة السابقة لقرار التقسيم أصعب المراحل في تطبيق المشروع الصهيوني؛ فهي مرحلة غرس المستعمر الصهيوني الجديد في الجسد العربي المسلم.. في فلسطين، ويشهد التاريخ أنها كانت عملية صعبة وأشد إيلاماً، فقد نالت من الجسد الفلسطيني، وفعلت به الأفاعيل، نهباً للأرض، وإنزال العقاب بأهلها.. ذبحاً وتشريداً وتدميراً على أيدي بريطانيا العظمى، وبرضا من العالم الغربي أجمع، وخضوع من الطرف العربي؛ بل وبتواطؤ من البعض.. حتى أصبح للصهاينة كيان وتجمع وقوة وحماية كبرى من بريطانيا وأمريكا وبقية الدول الكبرى، عندها صدر قرار التقسيم؛ لتبدأ مرحلة جديدة من مسلسل إبادة وتشريد الشعب الفلسطيني، والتهام المزيد من الأرض، تحت راية الأمم المتحدة التي تخصصت في إصدار العشرات من قرارات الإدانة لما يقترفه من مجازر وحشية، ولم تطبق «الشرعية الدولية» قراراً واحداً منها على هذا الكيان!
ولهذا فقد شهدت القضية الفلسطينية عشرات المذابح التي يشيب لها الولدان منذ مذبحة «دير ياسين» الشهيرة حتى «محرقة غزة» الدائرة اليوم دون توقف، وما زالت آلة الاغتصاب تواصل التهام الأرض وتمزيقها، وحشر ما تبقى من الشعب داخل كنتونات الجدار الإجرامي العازل في الضفة الغربية مع أكثر من 500 حاجز عسكري، إضافة لحصار حديدي حوّل «غزة» إلى (سجن كبير).. وأضيف له مؤخراً قطع عناصر الحياة الأساسية عن أهلنا هناك؛ المياه والغذاء والوقود!
وكما جندت بريطانيا وأمريكا أطرافاً عربية لتسهيل المهمة.. مهمة صناعة النكبة الفلسطينية.. تشارك الأطراف ذاتها اليوم -من وراء ستار- في حرب الإبادة الصهيونية الدائرة بالتحريض وبفتح الأرض للصهاينة لشن هجماتهم منها على «حماس» (تصريح موسى أبو مرزوق لـ«الجزيرة مباشر») استعداداً للاحتفال بالنكبة الثانية لفلسطين والشروع إقامة «إسرائيل الكبرى» على أشلاء الشعب الفلسطيني ثم إسدال الستار على أشهر قضية في التاريخ، لكن «طوفان الأقصى» المباغت انطلق فجأة وعلى حين غرة من الجميع واكتسح كل المؤامرات وبدد كل الأحلام وكشف كل الأقنعة بما فيها قناع الجيش الذي لا يقهر!
__________________________
1- بروفيسور عبدالفتاح العويسي المقدسي، مجلة دراسات بيت المقدس.
2- خيوط المؤامرة من نابليون إلى بلفور، علاء البرغوثي، مدونات الجزيرة، 11/ 2016م، بتصرف.
3- المفاوضات السرية بين العرب و«إسرائيل» جـ1، بتصرف، محمد حسنين هيكل.
(*) مدير تحرير مجلة «المجتمع» الكويتية، و«الشعب» المصرية– سابقاً.