تمرّ مائة عام على سقوط، أو بالأحرى إسقاط نظام الخلافة الذي تتحمل فيه القوى الأوروبية قسطاً كبيراً من المسؤولية؛ ذلك أن العلاقات العثمانية – الأوروبية اتسمت بالحذر الأوروبي الشديد والمتواصل من الأتراك المسلمين الذين كانوا يمثلون غالباً سداً منيعاً للأمة الإسلامية، وعاملاً مهماً في تجديد نهضتها؛ الأمر الذي يفسّر مراوحة التعامل الأوروبي بين هيبة الدولة العثمانية في عصر قوتها وأوجها، والسعي الحثيث عند ضعفها إلى تفكيك أواصرها والتآمر على إسقاطها وإنهاء نظام الخلافة الذي مارسته لمدة أربعة قرون (1517 – 1924م).
الأتراك السلاجقة يتصدون لبيزنطة
لم تكن أوروبا تتصور أن الخلافة الإسلامية ستعود من جديد بعد سقوط الخلافة العباسية عام 1258م على يد التتار، بعد أن أوهنتها سلسلة من الحروب الصليبية الأوروبية المدمّرة على الشرق الإسلامي بداية من عام 1096م، بالرغم من تحرير بيت المقدس من الصليبين على يد صلاح الدين الأيوبي عام 1187م في معركة «حطين» الحاسمة.
وشاءت الأقدار أن تتواجد قوتان زمن سقوط الخلافة العباسية، وهما المماليك في مصر، والسلاجقة في الأناضول، ساعدتا على إحداث نهضة جديدة للأمة.
سقوط القسطنطينية يمثل نهاية الوجود السياسي المسيحي بالشرق الأوسط وانحساره في أوروبا
وعلى ذكر السلاجقة (نسبة إلى سلجوق بن زقاق)، فإنهم سلالة تركيَّة تنحدر من قبيلة «قنق» التي تنتمي بدورها إلى مجموعة أتراك الغزّ، جاؤوا من آسيا وعبروا إيران وأقاموا فيها دولة السلاجقة الكبرى، ثم تقدموا نحو الإمبراطورية البيزنطية المسيحية (الروم) وهم يتسابقون على كسب شرف تحقيق بشرى النبي صلى الله عليه وسلم لمن يفتح القسطنطينية عاصمة الروم؛ «لتفتحن قسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجند ذلك الجند»، وتمكنوا من إقامة دولة سلاجقة الروم في منطقة الأناضول.
وفي عهدهم حصلت معركة «ملاذكرد» الشهيرة بين القائد ألب أرسلان والروم، إلا أن السلاجقة وجدوا صعوبة في التقدم نحو القسطنطينية، فجاءهم المدد من قبائل الغز التركية بقيادة أرطغرل الذي أبلى البلاء الحسن في الحركة الجهادية، فكافأه السلطان السلجوقي علاء الدين بأرض على حدود بلاد الروم أقام عليها إمارة ذات ولاء للسلطان.
سلالة أرطغرل تفتح القسطنطينية والبلقان
وبعد وفاة أرطغرل، قام ابنه عثمان بالاستقلال عن السلاجقة وتأسيس الدولة العثمانية باسمه عام 1299م، وهذه بداية العهد العثماني الذي سيتواصل حتى القرن العشرين في شكل دولة في مرحلة أولى، ثم تحولت بداية من عام 1517م إلى خلافة إسلامية عاصمتها إسطنبول التي كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الرومانية المسيحية.
مع بداية القرن العشرين ازداد الضغط على الدولة العثمانية ووصفت بـ«الرجل المريض» والتآمر لإسقاطها
ويُعدّ سقوط القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح عام 1453م منعرجاً في تاريخ العلاقة بين أوروبا والعالم الإسلامي، ويمثل نهاية الوجود السياسي المسيحي في منطقة الشرق الأوسط وانحساره في أوروبا، وتأكد هاجس الأوروبيين بوجود خطر يمثله العنصر التركي المسلم، حيث تمكن العثمانيون منذ عهد أورخان بن عثمان من إنجاز فتوحات كبرى في أوروبا ومنطقة البلقان، وذلك منذ منتصف القرن الرابع عشر، وتجذير الوجود الإسلامي الأوروبي في قلب القارة الأوروبية والتصدي للهيمنة الصربية على شعوب البلقان (البوسنة والهرسك والجبل الأسود..).
وجاء الرد المسيحي بإكمال عملية القضاء على الوجود الإسلامي في الأندلس بإسقاط غرناطة آخر إمارة أندلسية عام 1492م.
أوج الخلافة العثمانية في عهد السلطان سليمان
وبقيام الخلافة الإسلامية عام 1517م على يد السلطان سليم الأول حفيد محمد الفاتح، قويت شوكة دولة الخلافة العثمانية، ثم خلفه ابنه سليمان القانوني الذي بقي أطول فترة في الحكم حوالي نصف قرن (1520 – 1566م)، عظُم خلالها شأن العثمانيين، وأصبحوا قوة مهابة في العالم، خاصة دول أوروبا التي جمعت في سياستها مع سليمان «العظيم» كما تصفه، بين محاربته وتحريك الحروب الصليبية من جديد أمام تقدم فتوحاته في أوروبا (رودس، المجر، حدود فيينا)، ومهادنته، بل التحالف معه، كما حصل مع ملك فرنسا فرانسوا الأول منذ عام 1536م، إلى حد غضب الكنسية على الملك.
الحرب العالمية الأولى انتهت بهزيمة ألمانيا وحلفائها وجاء القرار بمؤتمر «لوزان» بإلغاء نظام الخلافة
لكن برزت مؤشرات الضعف على الإمبراطورية العثمانية بعد أن كانت في أوج قوّتها نهاية القرن السادس عشر، وتزامن ذلك مع ظهور قوى أوروبية جديدة مثل فرنسا وبريطانيا ذات طابع توسعي استعماري، استغلت علاقاتها وتحالفاتها مع إسطنبول للحصول على امتيازات قدمها بعض السلاطين أمام عجزهم عن تسديد الديون، ومن خلالها التدخل تدريجياً في الشأن العثماني وبأشكال مختلفة بدأت بتسريب النعرة القومية بين العرب والأتراك والأكراد والبربر.. داخل المجتمع المسلم في إطار سياسية «فرِّق تسُد»، وتمزيق وحدة الصف، وتسريب الفكر العلماني (فصل الدين عن الدولة وعن حياة المجتمع)، وأصبحت فرنسا راعية للمسيحيين في الشرق (خاصة في لبنان وسورية).
التدخل العسكري وسياسة «فرِّق تسُد»
ثم جاءت مرحلة التدخل العسكري والاستعمار التي مهدت لها حملة عسكرية نابليون بونابرت عام 1798م على مصر الولاية العثمانية، بل تقدم نابليون إلى فلسطين وتحديداً إلى أريحا وحاول استمالة اليهود بأول وعد لهم بوطن في فلسطين، لكن لم تنجح المبادرة، حتى جاءت مبادرة أخرى تعرف بـ«وعد بلفور» عام 1917م.
ومع بداية القرن العشرين، ازداد الضغط على الدولة العثمانية من خلال الحرب النفسية، ونعت هذه الدولة بـ«الرجل المريض»، ومحاولات التآمر لإسقاطها، خاصة بعد أن رفض السلطان عبدالحميد الثاني إعطاء وطن لليهود في فلسطين تحت ضغط الحركة الصهيونية المتنامية بدعم أوروبي.
أردوغان بنى سياسته على إحياء التراث الحضاري للدولة العثمانية والدفاع عن الهوية الإسلامية
وكانت النتيجة عزل السلطان عبدالحميد الثاني عن السلطة عام 1909م، تحت مبرر المطالبة بإجراء إصلاحات داخل الدولة، وضغط حركات معارضة ذات توجه علماني مثل حركة «تركيا الفتاة» و«جمعية الاتحاد والترقي».
إلغاء الخلافة ومحاربة مظاهر الإسلام
وجاءت الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م) لتكون فرصة لتفكيك أواصر الدولة العثمانية عن طريق اتفاقيات ووعود ومؤتمرات تصب في القضاء على خصم تاريخي، وأخطرها اتفاقية «سايكس بيكو» عام 1916م، وهي اتفاقية سرية تقوم على تفاهم فرنسي وبريطاني على اقتسام الهلال الخصيب (العراق، سورية..)، ثم وعد رسمي بريطاني يسمى «وعد بلفور» عام 1917م بوطن لليهود في فلسطين (الذي تحقق عام 1948م بعد أن هيأ الانتداب البريطاني الظروف المناسبة وتم التهجير القسري للفلسطينيين).
وانتهت الحرب بهزيمة ألمانيا ومعاقبة حلفائها، ومن بينهم الدولة العثمانية، وجاء القرار في مؤتمر «لوزان» بإسقاطها وإلغاء نظام الخلافة.
جاء في «الموسوعة الميسرة في التاريخ الإسلامي» (ص 222) للدكتور راغب السرجاني، أنه مؤتمر «لوزان» عقد عام 1331هـ، وحضره ممثلون من حكومة أنقرة، وضع الإنجليز فيه شروطاً للاعتراف باستقلال تركيا، عرفت بشروط «كرزون الأربعة»، وهي:
1- إلغاء الخلافة العثمانية.
2- قطع كل صلة بالإسلام.
3- إخراج أنصار الخلافة والإسلام من البلاد.
4- اتخاذ دستور مدني بدلاً من دستور تركيا القديم المؤسَّس عن الإسلام.
وحاول البعض الالتفاف حول الخليفة، ولكن كمال أتاتورك كان قد قويت شوكته واستطاع أن يزيح كل من وقف في طريقه وأعلن إلغاء الخلافة عام 1341هـ وأعلن قيام جمهورية تركيا، وألغى الوظائف الدينية، وسلّط جنده على السكان يجرّدون النساء من حجابهن، وجعل من نصوص الدستور أن يكون له تمثال في جميع أنحاء تركيا، ومنع الأذان باللغة العربية، وجعل كتابة اللغة التركية بحروف لاتينية بعدما كانت كتابتها بحروف عربية.
الصحوة الدينية في تركيا
لكن عادت الصحوة الدينية بظهور حركات إصلاحية ذات توجه إسلامي، مثل الحركة النورسية؛ نسبة إلى سعيد النورسي (1878 – 1960م)، ثم ظهرت الحركة الإسلامية المعاصرة بقيادة نجم الدين أربكان، رئيس حزب الرفاه، رئيس وزراء تركيا في أواخر التسعينيات، ثم تلميذه الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، وحزبه العدالة والتنمية.
أوروبا لم تدرك أن عصر الهيمنة ولَّى والعالم يتهيأ لدورة حضارية جديدة يعود فيها المجد للإسلام
وقد بنى الرئيس أردوغان سياسته على إحياء التراث والعطاء الحضاري للدولة العثمانية، والدفاع عن الهوية الإسلامية، وإعادة الهيبة للدولة التركية ومجدها، عن طريق بنية اقتصادية وعسكرية متينة، وتحولت تركيا أردوغان إلى قوة إقليمية لها امتداد آسيوي وأفريقي، علاوة على عضويتها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؛ الأمر الذي يفسر التخوف الكبير لدى الأطراف الأوروبية من هذه القوة الإقليمية الصاعدة، ونعت أردوغان بـ«السلطان» في إشارة إلى عهد الخلافة العثمانية!
تركيا قوة إقليمية وازنة
ولعل الرفض الأوروبي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مؤشر كبير على هذا التخوف؛ إذ إن تركيا اليوم تجمع بين القوة الاقتصادية والعسكرية والسكانية (85 مليون نسمة)، والهوية الإسلامية المتنامية بعد أن كانت عنواناً ورمزاً لدولة مسلمة علمانية بامتياز في عهد أتاتورك.
وكان الرد التركي على هذا الرفض بنعت الاتحاد الأوروبي بـ«النادي المسيحي المغلق»، وقيام أنقرة بربط تحالفات وتكتلات مع دول في آسيا الوسطى ذات غالبية عرقية تركية، مثل تركمانستان وأذربيجان، علاوة على إمساك العصا من الوسط في ظل التوازنات الدولية المتحركة عن طريق علاقات دبلوماسية مع روسيا والصين ودول الخليج العربي، والسعي إلى إرساء تعامل ندي في العلاقات الدولية، مع الاستفادة من تجربة الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بمميزات نظام الاتحاد في توحيد الصف الإسلامي، من حيث التكتل مع الحفاظ على التنوع.
وتثبت المستجدات (مثل الحرب في أوكرانيا، وفي فلسطين المحتلة) أن الطرف التركي لا يمكن تجاهله أو تجاوزه، بل إن من مصلحة أوروبا التي تشعر بالتهديد على حدودها الشرقية أن تحافظ على نوع من العلاقة مع القيادة التركية الحالية، وهي تعوّل في الوقت نفسه على مرحلة ما بعد أردوغان، وانتظار احتمال وصول قيادة جديدة ذات نزعة علمانية، ولكن ما لم تدركه أوروبا بعدُ أن عصر الهيمنة قد ولّى، وأن العالم يتهيأ لدورة حضارية جديدة يعود فيها المجد للإسلام وأهله.