قدمت دولة الخلافة الإسلامية نموذجاً للتشارك بين الحكومة والشعب في تحقيق مقاصد الإسلام وآمال الأمة، فأفسحت المجال أمام المشاركة الشعبية؛ فكان التعليم يجري أولاً في الكتاتيب والمساجد، وهي مؤسسات شعبية، وأقامت الحكومة في مراحل تالية المدارس الكبرى والجامعات، وكانت الدولة تعيّن القضاة، وتمنحهم مرتباتهم المالية، وتيسّر لهم أداء أعمالهم، وتوظف لهم من يعينهم على أدائها، وتنفذ أحكامهم، لكن الفقهاء هم من كانوا يضعون التشريعات دون تدخل من الحكومة، وكثير من المرابطين في الثغور كانوا متطوعين، لكن أمر الجيوش المنظمة وتسليحها ومرتبات رجالها كان من اختصاص الحكومة.
قرطبة كانت تنار بالمصابيح ويستضاء بنورها 10 أميال!
وكان خلفاء الإسلام الأولون علماء حكماء، وظل كثيرون منهم فيما بعد يحرصون على طلب العلم، ويوفرون ذلك لأبنائهم ممن سيلون الخلافة، ويقدمون لهم القدوة في احترام العلم وأهله، وفي كل عصر من عصور الخلافة يمكن إيراد جملة من الأمراء والخلفاء اشتهروا بالعلم والسياسة معاً، مثل الخلفاء الراشدين جميعاً، وجل خلفاء بني أمية، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، وعبدالملك بن مروان، وعمر بن عبدالعزيز، وكثير من الخلفاء العباسيين الكبار، منهم أبو جعفر المنصور، والمهدي، وهارون الرشيد، والمأمون، وكثير من أمراء المرابطين والموحدين، وأمراء الأندلس، والقافلة تمتد لتضم جماعة من العثمانيين منهم محمد الفاتح، وسليمان القانوني، وآخرهم السلطان عبدالحميد.
المدارس النظامية
وكانت مجالس الخلفاء والأمراء تغصُّ بالعلماء من كل صوب وفن، وتقدم لهم التسهيلات والجوائز، وبرز دور الدولة في بناء المؤسسات التعليمية الكبرى، فظهرت المدارس النظامية على يد الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485هـ)، وبُنيت الجامعة المستنصرية، والمدرسة النورية، والجامع الأزهر، والعديد من مساجد قرطبة وإسطنبول وغيرها.
قال ابن كثير، في حوادث عام 631هـ: «فيها كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد، ولم يُبنَ مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة، من كل طائفة اثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث، وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد»، إلى أن قال: «ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها، وجودة الكتب الموقوفة بها».
مستشفى ابن طولون به خزانة كتب تحوي 100 ألف مجلد!
وانتشرت المؤسسات الأهلية كالمساجد والكتاتيب حتى عدّ ابن حوقل (ت 367هـ) 300 كتّاب في مدينة واحدة من إمارة صقلية، وكان التعليم في مجمله عملاً أهلياً، مجانياً متاحاً للجميع، وتكفلت الأوقاف الإسلامية الضخمة بالإنفاق على التعليم عامة، فكانت في دمشق وحدها 400 مدرسة في العصر المملوكي، تتنوع بين مدارس شرعية وعملية، وكل مدرسة تحتوي على مسجد، وقاعات للدراسة، وغرف لنوم الطلاب، ومكتبة، ومطبخ وحمام، وبعضها يحتوي على ملاعب للرياضة.
أما المشافي، فلم تقل العناية بها عن المدارس والجامعات، ففي عهد الوليد بن عبدالملك أنشئ أول مستشفى في الإسلام خاصة بالمجذومين، وأجريت لهم الأرزاق، ولم تخل بلدة صغيرة يومئذ من مستشفى فأكثر، حتى إن قرطبة وحدها كان فيها 50 مستشفى، وفي كثير من تلك المستشفيات وجدت قاعات طبية وأقسام متخصصة، ولكل قسم أطباء، عليهم رئيس، فبعضها للأمراض الباطنية، وبعضها للجراحين والمجبِّرين، وبعضها لأطباء العيون، أو الكحالين، وفي كل مستشفى عدد من الفراشين والممرضين والمساعدين، ولهم رواتب معلومة وافرة، وفي كل مستشفى صيدلية.
وكان يلحق بكل مستشفى مكتبة عامرة بكتب الطب وغيرها مما يحتاجه الأطباء وتلاميذهم، حتى قالوا: إنه كان في مستشفى ابن طولون بالقاهرة خزانة كتب تحتوي على ما يزيد على 100 ألف مجلد في سائر العلوم، وأوقف عليه ما يدر عليه ألف درهم في كل سنة، وألحق به مسجد ومدرسة ومكتب للأيتام، ولا يخرج منه كل من يبرأ من مرض حتى يُعطى كسوة للباسه، ودراهم لنفقاته، حتى لا يضطر للالتجاء إلى العمل الشاق فور خروجه، بل امتدت الرعاية الصحية لتشمل السجون، فكانت ثمة المشافي ومراكز الإسعاف.
كانت تلكم الحال في دولة الخلافة، بينما يروي المؤرخون قصصاً مثيرة للأسى والشفقة عن حال الطب لدى معاصريهم من الصليبيين والأوروبيين.
واشتد ولع الحكام والأدباء والعلماء بالكتب، فكانت هناك مكتبات خاصة وعامة، وفي المكتبات العامة غرف مكتبية متخصصة، منها قاعات مطالعة، وغرف لحلقات الدرس، وغرف للنسخ والتجليد والموسيقى، وأخرى للطعام، والنوم، وبها موظفون متخصصون، منهم أمناء المكتبة، ومترجمون، ومفهرسون، وخصصت الأوقاف اللازمة للإنفاق لذلك كله.
وقد ضمت مكتبة الفاطميين بالقاهرة مليوني كتاب، بينما ضمت مكتبة بني عمار بطرابلس مليوناً.
الأمة دفعت أثمان ضياع الخلافة من حريتها وكرامتها
ثم كانت جناية أعداء الإسلام على المكتبات على نحو ما هو مشهور في شأن المغول لما دمروا مكتبات العراق، ورموا الكتب في نهر دجلة حتى تغير لون المياه من مدادها، وما فعله نصارى الإسبان بالمكتبات الزاخرة التي ضمت علوم الدنيا في الأندلس بعد سيطرتهم عليها.
وبينما كانت الأوضاع مزرية في المدن الأوروبية الضحلة والقذرة في العصور الوسطى، نجد قرطبة -عاصمة الأندلس في عهد عبدالرحمن الثالث- تنار بالمصابيح ليلاً، ويستضيء الماشي بنورها عشرة أميال لا ينقطع عنه الضوء! أزقتها مبلطة، وقماماتها مرفوعة من الشوارع، ومحاطة بالحدائق الغنّاء حتى كان القادم إليها يتنزه ساعات في الرياض والبساتين قبل أن يصل إليها، وكان سكانها أكثر من مليون نسمة، في ذلك العصر الذي لم تكن فيه أكبر مدينة في أوروبا تزيد على خمسة وعشرين ألفاً، وكان فيها 80 مدرسة يتعلم فيها الفقراء مجاناً، و50 مستشفى، وأما مسجدها فكانت ولا تزال آثاره حتى اليوم آية خالدة في الفن والإبداع، وقل مثل ذلك عن بغداد حاضرة العباسيين، وأعظم مدن العالم آنذاك قاطبة.
رعاية الحيوان
وامتدت رعاية دولة الخلافة لتشمل الحيوان، فقد ضرب الخليفة عمر بن الخطاب جمّالاً لأنه حمَّل جمله ما لا يطيق، ورأى رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك! قدها إلى الموت قوداً جميلاً، وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عامله بمصر: بلغني أن بمصر إبلاً نقالات يحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرفن أنه يُحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل، ونهى، كذلك، في إحدى رسائله إلى الولاة الناس عن ركض الفرس في غير حق، وكتب إلى صاحب السكك ألا يسمحوا لأحد بإلجام دابته بلجام ثقيل، أو أن ينخسها بمقرعة في أسفلها حديدة.
وكان من وظيفة المحتسب أن يمنع الناس من تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها أثناء السير، فمن رآه يفعل ذلك أدّبه وعاقبه.
وكانت النفقة على الحيوان واجبة على مالكه، فإن امتنع أجبر على بيعه أو الإنفاق عليه، أو تسييبه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه، أو ذبحه إذا كان مما يؤكل.
ورصدت أوقاف خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقاف لرعي الحيوانات المُسنة العاجزة! كان هذا يحدث في دولة الخلافة، في حين كانت أوروبا العصور الوسطى تتهم بعض القطط بالسحر، وتأمر بحرقها، وتعقد محاكمة للفئران المزعجة، ومحاكمة أخرى للديك الذي باض، ثم يحكم فيها بإعدامه على نحو ما فصل د. مصطفى السباعي في كتابه القيم «من روائع حضارتنا».
نعم، ذهبت الخلافة ورونقها، وجنت الأمة كلها ثمار جهل وغباوة ونزق، ثم راحت تدفع أثمان ذلك من حريتها ومكانتها، وكرامة رجالها ونسائها، وقوت أولادها.