لم يلتقيا وربما لم يسمع أحدهما عن الآخر، ولم يخطر ببالهما أن ثمة رابطًا سيجمعهما، ليس في الحياة فحسب، وإنما في الممات أيضًا، وإن اختلفت طريقة وفاة كل منهما، إنهما الأمريكيان راشيل كوري، وآرون بوشنيل.
وأما الذي جمعهما فقد كان أمرًا عجبًا؛ إنه أمر يجري هناك حيث أرض الزيتون والسلام التي تحولت بفعل القوة الصهيونية الغاشمة إلى أرض الدماء والأشلاء! جمعهما حب فلسطين والدفاع عن أهلها ضد ما يجري عليهم من انتهاكات واعتداءات.
تضامُنان بينهما 21 عامًا
في 16 مارس 2003م، صعدت روح راشيل البريئة تحت عجلات جرافة صهيونية تريد هدم منازل فلسطينيين بمدينة رفح في قطاع غزة، كانت راشيل تحاول منع الهدم، لكن سائق الجرافة لم يرتدع، بل تعمد قتلها ودهسها مرتين، بحسب شهود عيان.
وبعد 21 عامًا (25 فبراير 2024م) تصعد أيضًا روح آرون تضامنًا مع فلسطين، واستنكارًا لما يجري في غزة من إبادة جماعية بمشاركة سلاح دولته، وتواطؤ دول غربية لاذت بالصمت الذي يفسح الطريق أمام الجاني، ويشجعه على ارتكاب المزيد من الحماقات.
راشيل، وهي من مواليد 10 أبريل 1979م، كانت عضوة في حركة التضامن الدولي (ISM)، وسافرت إلى قطاع غزة أثناء الانتفاضة الثانية، ذهبت إلى هناك تعلن تضامنها مع فلسطين، ولتكون شاهدة عن قرب على ما كنت تسمعه من أنباء ربما ظنتها مبالغات إعلامية! لكن بدلاً من أن تكون الشاهدة كانت المشهودة، وعوضًا عن أن تنصف الضحايا انضمت إلى قائمتهم!
بجسدها النحيل حاولت منع جرافة تهدم بيوت الفلسطينيين، فكانت الجرافة عمياء مثل من يقودها! واستقوت على جسدها النحيل، كما تستقوي دائمًا على الفلسطينيين وبيوتهم!
وفي ذات الصفحة من كتاب التضامن، يطالعنا آرون بوشنيل، طيار أمريكي، وهو من مواليد عام 1999م، وأحد أفراد القوات الجوية الأمريكية، وقد ظهر مرتديًا زيه العسكري وحرص على أن يشاركنا دقائق حياته الأخيرة ببث مباشر أعلن فيه رأيه إزاء ما يجري في غزة، قبل أن يتخذ قرارًا وصفه هو نفسه بأنه «عمل احتجاجي شديد، لكن مقارنة بما شهده الناس في فلسطين على أيدي مستعمريها؛ فإن الأمر ليس متطرفًا على الإطلاق، وهذا ما قررت الطبقة الحاكمة لدينا أنه أمر طبيعي»، ثم أشعل النار في نفسه أمام السفارة «الإسرائيلية» بواشنطن، احتجاجًا على العدوان الهمجي بغزة.
في رسالتها الأخيرة لأهلها في الولايات المتحدة الأمريكية، قالت راشيل كوري: «أعتقد أن أي عمل أكاديمي أو أي قراءة أو أي مشاركة بمؤتمرات أو مشاهدة أفلام وثائقية أو سماع قصص وروايات، لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا، ولا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك تفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبّر عن واقع حقيقي» (موقع موسوعة المعرفة).
وقبل أن ينهي آرون حياته، قال: «لن أكون متواطئًا بعد الآن في الإبادة الجماعية»، ثم سكب على نفسه سائلاً وأشعل النار في جسده وهو يصرخ: «فلسطين حرة»، ثم تُوفي لاحقًا بالمستشفى بعد 7 ساعات (موقع الجزيرة والمعرفة).
صوت شعبي متزايد
راشيل، وآرون ليسا وحدهما في إعلان التضامن مع فلسطين وغزة، فما زالت هذه القضية العادلة تجتذب أصواتًا كثيرة من غربيين منصفين هالهم ما يجري على أرض المسرى و«الأقصى» من همجية ووحشية، وما تشارك به دولهم في ذلك من إمداد بالسلاح أو القيام بالتبرير وإضفاء الشرعية، بزعم الدفاع عن النفس؛ وكأن الاحتلال عمل مشروع من حقه أن يدافع عن نفسه! فضلاً عن لوم الضحية ومطالبتها بالصمت وعدم التأوه وإبداء الشكوى.
ورغم الآلة الإعلامية الصهيونية الضخمة، وما يقف خلفها من إعلام دولي متواطئ؛ فإن الرواية الفلسطينية شقّت لنفسها طريقًا إلى عقول وأفئدة الملايين من الغربيين، الذين نجوا من زيف الإعلام وسطوته الجبارة؛ فخرجوا إلى كبرى ميادين العواصم الغربية، وتحدوا ما خُوفوا به من عدم دعم الحق الفلسطيني، ومن الملاحقة عند ذلك بتهمة «معاداة السامية»، وما زالت هذه الجموع تملأ الميادين كل أسبوع.
دلالات مهمة
مع أن هذه الأصوات الغربية المؤيدة للحق الفلسطيني لم تنجح في وقف آلة العدوان والقتل؛ فإنها تسجل موقفًا مهمًّا يحمل العديد من الدلالات، منها:
– هذه الأصوات في تزايد مستمر، رغم الآلة الإعلامية الجبارة من الصهاينة وداعميهم الغربيين، ورغم ضعف الجهود العربية والإسلامية؛ فالحق الفلسطيني يكتسب الدعم، بذاته، وبجهود متواضعة وشعبية بالأساس، فما بالنا لو وُجد نوع من التخطيط والتنسيق والإمكانات؟!
– هي أصوات مهمة تفضح التواطؤ الغربي وتضع الساسة الغربيين في مواجهة صريحة مع الذات؛ إذ لا يمكن اتهام هذه الأصوات بالجهل أو الانحياز للحق الفلسطيني؛ فهي أصوات تنبع من بني جنسهم ذوي البشرة البيضاء والعيون الزرقاء.
– إذا كان الكيان الصهيوني امتدادًا للمشروع الغربي الاستعماري؛ فإن من المهم مواجهة هذا الكيان في أصل منبته وفي ساحات دعمه وإمداده؛ أي في ساحات العواصم الغربية، وإذا جاءت هذه المواجهة من خلال غربيين، فإن صداها يكون أقوى وأعظم تأثيرًا.
– الأصوات الغربية المنصفة الداعمة للقضية الفلسطينية لا تصب في مصلحة هذه القضية وحدها، وإنما في عموم ما يتصل بقضايا العرب والمسلمين، ومنها قضايا الهجرة و«الإسلاموفوبيا»، فلا شك في تداخل هذه القضايا التي تمثل فلسطين رافعة مهمة لها.
لماذا لا يحرق داعمو الكيان أنفسهم؟
هذا السؤال ليس لي، فأنا لا أدعو أحدًا أن يحرق نفسه، حتى لو كان مؤيدًا للحق الفلسطيني، أما السؤال فقد أشارت إليه الصحفية الأسترالية كاتلين جونستون إذ قالت في تدوينة مطولة لها على منصة «إكس»، وبلهجة تحمل سخرية: هذه ليست أول عملية تضحية بالنفس نشهدها احتجاجًا على الفظائع التي ترتكبها «إسرائيل» بدعم من الولايات المتحدة، بعد 7 أكتوبر؛ ففي ديسمبر الماضي قام متظاهر لم يُذكر اسمه بحرق نفسه أمام مبنى القنصلية «الإسرائيلية» في أتلانتا ورفع العلم الفلسطيني.
ثم أضافت: وبينما أفكر في هذا لا يسعني إلا أن أفكر، كم عدد مؤيدي «إسرائيل» الذين أحرقوا أنفسهم احتجاجًا على 7 أكتوبر؟ أو احتجاجًا على أزمة معاداة السامية الخطيرة للغاية التي يزعمون أنها تجعل اليهود يشعرون بعدم الأمان في مجتمعاتهم؟ من المؤكد أن ادعاءاتهم جدية وصادقة مثل ادعاءات أنصار فلسطين، أليس كذلك؟ بالطبع لا، وهذا لم يحدث، والفكرة ذاتها مثيرة للضحك، ويصر المدافعون عن «إسرائيل» على أنهم هم والدولة العرقية المفضلة لديهم، هم الضحايا الحقيقيون في كل هذا، وليس سكان غزة الذين شهدوا إبادة عشرات الآلاف من الفلسطينيين بينما يحتفل الجنود «الإسرائيليون» علانية بتهجيرهم الجماعي وبموتهم، لكنك لا تراهم- أي «الإسرائيليين»- يحرقون أنفسهم؛ لن يفعلوا أي شيء يسبب الألم والإزعاج لأنفسهم للترويج لأجندة حيواناتهم الأليفة، لن يفوتوا حتى وجبة الغداء بسبب ذلك.
نعم، هو مجرد سؤال تفرضه الحادثة، لكنه سؤال كاشف عن أن من يزعمون أنهم مضطهدون هم أدرى الناس بزيف ادعاءاتهم، التي لم تنطلِ على كثير من الغربيين الذين يعلنون دعمهم لفلسطين، وبعضهم لا يبخل حتى بحياته في سبيل ذلك.