روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا رجع رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورجعنا مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْنَا الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الشَّجَر، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَسَيْفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُعَلَّقٌ بِالشَّجَرَةِ، فَأَخَذَ سَيْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّه، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَخَافُنِي؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللهُ»؛ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟»، قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟»، قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَلا أُقَاتِلَكَ، وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبِيلَهُ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى أَصْحَابِهِ وقَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ.
ففي هذا الحديث دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قادراً على الانتقام ممن يعتدي عليه، لكنه لم يفعل ذلك، لأنه يدعو إلى قيمة عظيمة من قيم الإسلام، وهي قيمة العفو عن الناس.
وتزداد الحاجة إلى العفو عن الناس في استقبال شهر رمضان المبارك، فمن عفا عن الناس فإنه يفوز فوزاً عظيماً، ومن مظاهر هذا الفوز ما يأتي:
أولاً: الاقتراب من تحقيق التقوى:
إذا كان الله تعالى جعل من مقاصد الصيام تحقيق التقوى، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)؛ فإن العفو عن الناس أقرب للتقوى، وفي ذلك يقول الله عز وجل: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة: 237)، فمن عفا عن الناس فقد اقترب من تحقيق التقوى.
ثانياً: الفوز بعفو الله:
من عفا عن الناس؛ عفا الله عنه، حيث إن الجزاء من جنس العمل، ومن أراد أن يرزقه الله الخير فلينفق مما يحب، حيث قال الله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92)، فإذا أنفق المسلم عفواً عن الناس؛ فإن الله تعالى يعطيه عفواً بعفوه، قال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) (النساء: 149).
ثالثاً: التخلق بأخلاق الله:
فالله تعالى هو العفُو، حيث وصف نفسه بذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء: 43)، وقال عز وجل: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (الشورى: 25).
ومن عفو الله تعالى الخاص في شهر رمضان، ما جاء في قوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) (البقرة: 187).
وعن العفو في رمضان أيضاً سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»، فالله تعالى عفو، وهو يحب العفو، فعلى المسلم أن يتخلق بهذا الخلق الكريم.
رابعاً: تحقيق المغفرة:
وعد الله تعالى من يعفو عن الناس بالعفو والمغفرة، فقال: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 22)، وقال سبحانه: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن: 14).
والمسلم يصوم شهر رمضان المبارك وهو يرجو الله تعالى أن يغفر له، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن «مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» (صحيح البخاري)، لكن مغفرة الله تعالى تحتاج من العبد أن يغفر للناس، ولا يخاصمهم أو يهجرهم بغير وجه حق، ففي صحيح ابن حبان عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيه وسَلم قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَاّ لِمُشْرِكٍ، أَوْ مُشَاحِنٍ».
خامساً: إجابة الدعاء:
فمن عفا عن الناس، وحرص على إزالة كل ما في نفسه من مظاهر القطيعة، فأقبل عليهم وصافحهم؛ فقد وعده الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابة الدعاء، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والبيهقي بسند حسن، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ الْتَقَيَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بَيَدِ صَاحِبِهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُجِيبَ دُعَاءَهُمَا، وَلَا يَرُدَّ أَيْدِيَهُمَا حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا».
سادساً: العزة والفضل:
فإن العافين عن الناس يتحلون بالفضل ويكتسون بالعزة، ولا يتوهم أحد أن العفو يجعل صاحبه ذليلاً أو عاجزاً، بل يكون كريماً متفضلاً.
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ففي صحيح مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ».
كما أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن خير الناس من بدأ بالسلام، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلُّ لمسلم أن يَهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يَلتقيان، فيُعرض هذا، ويُعرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».
سابعاً: تحقيق السكينة والطمأنينة:
ففي العفو سكينة النفس وطمأنينة القلب، حيث إن العافين عن الناس لا يضمرون الشر في نفوسهم، ولا تحمل قلوبهم الحقد والحسد للناس، فهم أطهر الناس قلباً، وأسلمهم صدراً، وأولئك هم خير الناس.
ويدل على ذلك ما رواه ابن ماجه بسند صحيح، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: «أيُّ الناسِ أفضلُ؟»، قال: «كلُّ مخمومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ»، قالوا: صدوقُ اللسانِ نعرفُه، فما مخمومُ القلبِ؟ قال: «هو التقيُّ النقيُّ لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غِلَّ ولا حسدَ».
ومما يدل على طمأنينة قلب العافين عن الناس، ما قاله الشاعر:
لما عفوت، ولم أحقد على أحدٍ أرحت قلبي من غم العداوات
إني أحي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأُظْهِر البِشْر للإنسان أبغضه كأنما قد ملأ قلبي مسرات
ثامناً: توثيق الروابط الاجتماعية:
العفو يسهم في توثيق الروابط الاجتماعية التي تتعرض للضعف والانفصال بسبب سوء المعاملة من بعض الناس، وهنا يأتي دور العفو الذي يجعل المظلوم يستريح من عناء المكر والكيد لرد العدوان، كما يجعل المعتدي يستحيي من نفسه على ما فعله، ويتحول من عدو إلى صديق حميم، حيث قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34).
تاسعاً: الاستجابة لأمر الله:
أمر الله تعالى بالعفو عن الناس، قائلاً: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، وقال عز وجل: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 109).
عاشراً: التحلي بصفات أهل الجنة:
العفو بابٌ للفوز بالجنة، حيث أوضح الحق سبحانه وتعالى أن من صفات أهل الجنة العفو عن الناس، فقال تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {133} الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران)، وروى أبو داود، والترمذي، عن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ».