تمهيد:
“غيوم فرنسية” رواية للكاتبة ضحى عاصي (دار ابن رشد، القاهرة، 2021، 286 صفحة من القطع المتوسط)، تعالج قضية الهويّة من خلال الاحتفاء بأفكار طائفة النصارى في مصر، وتتناول خيانة المعلم يعقوب، وأتباعه في اثناء الحملة الفرنسية على مصر بقيادة السفاح نابليون بونابرت (1798- 1801م)، حين شكلوا جيشا من النصارى سموه الفيلق القبطي، وأقاموا قلعة في الرويعي بالقاهرة القديمة، وحاربوا أشقاءهم المسلمين وقتلوهم لحساب الغزاة الفرنسيين، ولم يكتفوا بالقتال في العاصمة، بل واصلوا القتال مع الغزاة الفرنسيين حتى أعماق الصعيد، وحين خرجت الحملة الفرنسية انسحبوا معها وعاشوا في فرنسا على النحو الذي تقدمه الرواية، من وجهة نظر هجائية للإسلام والمسلمين.
شيء عن الكاتبة
والكاتبة منحازة لليسار والغرب عمومًا بحكم نشأتها في بيت والدها الأزهري الشيوعي الشيخ مصطفي عاصي (1931- 2011م) المولود في قرية بساط كريم الدين، التابعة لمركز شربين بمحافظة الدقهلية، ومع أن الرجل أزهري التعليم، دعويّ الوظيفة، حيث كان إمامًا وخطيبًا في وزارة الأوقاف، فقد عاش في تنظيمات الاتحاد الاشتراكي العلنية والسرية، وكنف الشيوعيين المصريين الذين لقبوه بالشيخ المستنير (ما الذي يجمع الإسلام والاستنارة التي ترفض الدين وتؤمن بالتجربة المادية وحدها؟)، وشارك معهم عام 1976م في تأسيس حزب “التجمع الوطني التقدمي الوحدوي”، ويشير إليه السياسيون اختصارا باسم “توتو “، وهو حزب حكومي بامتياز، (الإصدارة 1.0 – 2017 مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء)، وانتهى الحزب إلى مصير مؤسف حيث انفض كثير من أعضائه الذين انخدعوا بشعاراته البراقة، ووصل عددهم ذات يوم إلى ثلاثمائة ألف عضو، لم يبق منهم الآن غير ثلاثة آلاف على أفضل التقديرات، وتقوم قياداته بتجميل قرارات السلطة والترويج لها نظير بعض الفتات الذي يلقى إليها مثل التعيين في مجالس وهيئات كرتونية لا قيمة لها في الواقع الحيّ، والهيمنة على مقدرات الثقافة والتعليم والإعلام! مقابل مكافآت مدفوعة من دم الشعب البائس الفقير.
عضوية ودراسة
وضحى مصطفى عاصي، (ولدت بالمنصورة 1970م) عضو مجلس النواب الحالي، ونشر عنها أنها أول كاتبة مصرية تحصل على العضوية العاملة باتحاد الكتاب الروسي. وتعلمت في مدارس الفرنسيسكان، ثم سافرت إلى الاتحاد السوفيتي لاستكمال دراستها الجامعية، ويقال إنها تجيد الإنجليزية والروسية والفرنسية وقليل من الإيطالية. وحصلت على شهادات عديدة، منها: دبلوم اللغة الروسية من معهد بوشكين بجامعة موسكو، وبكالوريوس سياحة وفنادق: لغة إنجليزية وفرنسية، ودبلوم النقد الفني من المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، ودبلوم الفنون الشعبية من المعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون، وأخيرًا دبلوم التراث العربي المسيحي من كلية اللاهوت الإنجيلية.
ونشرت ضحى بعض الكتب منها: رواية «104 القاهرة» ورواية «سعادة السوبر ماركت»، بالإضافة إلى رواية «غيوم فرنسية» التي تتناول الخائن يعقوب ورجاله، ونالت اهتماما كبيرا من الجانب الروسي، واليسار المصري المهيمن على الثقافة وأجهزتها في مصر!
فكرة الرواية
وتجتهد الرواية بصفة عامة في إظهار ما يسمى بمظلومية النصارى في مصر، وثباتهم على مبادئهم(!) لمواجهة الظلم الإسلامي الذي فرض عليهم أن يمشوا في طريق مغاير لطريق المسلمين، من خلال فعل الأمر: اشمل يا نصراني! أي امش في الشمال! وكانت الكاتبة تسعى أن يكون فعل “اشمل يا نصراني” عنوان روايتها، لولا أن صديقها “محمد عفيفي” صاحب رواية “يعقوب”، لم يحبذ هذا العنوان واختار لها عنوانها الحالي: “غيوم فرنسية”.
ويبدو أن القوم لغرض ما وجدوا في هذه العبارة فرصة سانحة للنيل من طبيعة الإسلام السمحاء، وأخلاق المسلمين، فردّدوها في مناسبات شتى، مع أن النبي- صلى الله عليه وسلم- استقبل وفد نصارى نجران في مسجده بالمدينة المنورة، وتزوج من سيدة نصرانية اسمها ماريا القبطية، وسمح الإسلام للمسلمين بالزواج من النساء الكتابيات، أهل (الإنجيل والتوراة)، وقبل ذلك كله أباح للمسلمين أن يأكلوا من طعام أهل الكتاب، وأن يتعاملوا معهم معاملة طبيعية مالم يعتدوا، والآيات في كثيرة، ومنها على سبيل المثال: ” لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة: 8).
وفي الحديث الشريف عن النبي- صلى الله عليه وسلم: من ظلم معاهدًا، أو انتقصه حقًا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة- رواه أبو داود والبيهقي. وعنه أيضًا: من آذى ذميًا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
وتحرص الرواية على ترديد جملة “اشمل يا نصراني” على لسان بعض الشخصيات، لتسوّغ خيانة الوطن والانضمام إلى الغزاة القتلة في حملة نابليون، وقبل ذلك لتعميق فكرة الاضطهاد المزعوم للطائفة، دون أن نرى المقابل للطرف الآخر في حياته وسلوكه إلا مقرونا بالوحشية وقتل سكان حارة النصارى.
فروق واقعية
واقع اليوم يكشف عن اضطهاد الأكثرية الساحقة لحساب الطائفة ومن أجلها. الكنائس تفتح على مدار الساعة، والمساجد تفتح قبل الصلاة بدقائق وتغلق بعد انتهائها، خطب الجمعة تحدد السلطة موضوعها ومدتها، ومواعظ الكهنة لا يستطيع أحد الاقتراب منها مع أنها تتضمن أحيانا تحريضا على الانعزال والانفصال وتشويها للإسلام تحت لافتة الأديان الكاذبة، لا يجرؤ خطيب مسلم أو واعظ على الإشارة إلى طبيعة النصرانية وفقا لما ورد في القرآن الكريم، ويستطيع قادة الطائفة وكتابها أن يتهموا الإسلام بالتطرف والإرهاب والأصولية والتمييز والعنصرية، وتتدخل السلطة بمنع نشر الكتب والمقالات والبحوث التي تتناول الشأن الطائفي وخاصة ما يتعلق بنزعته الانفصالية التي تدعي أن المسلمين ضيوف وأن النصارى أصحاب البلد، وفي الوقت نفسه تمنح الطائفة فرصة نشر الكتب التي تريد، وكتابة المقالات التي تتحدث عن المواطنة (بمعنى إلغاء الإسلام) وفصل الدين عن الدولة، وهجاء الخلافة الإسلامية، والتبشير باستحالة قيامها مرة أخرى، مع أن العالم يتكتل في مجموعات لأهداف اقتصادية أو ثقافية أو سياسية (الاتحاد الأوربي، دول الفرانكوفون، دول الكومنولث، دول البريكس، ..).
قصة خيالية
لا أود الاستفاضة في الواقع الذي حوّل الأكثرية الساحقة إلى جالية مستضعفة، “تُشْمِل” أمام مليارديرات الطائفة ورجالها الذي يسيطرون على أكثر من 65% من التجارة الداخلية وحدها، وأكتفي باستعراض القصة الخيالية حول جملة “اشمل يا نصراني”، فقد نشرت صفحة من يسمون “أحباء الأنبا بولا أول السواح” على الفيسبوك بوك بتاريخ 28 يوليو 2018 ما يلي:
اشمل يا نصراني!
كانت هذه الجملة تقال للأقباط ليأخذوا يسار الطريق لأنهم أهل ذمة بل إنها كانت معروفة أيضاً في الشام.. وفي مارس ١٨٤٤ وكان الاقباط بدأوا عصرا جديدا من المساواة في عهد محمد على حدثت تلك الحادثة. شخص مكلف برعاية الحمير يعترض مسيرة أرخن قبطي اسمه سيدهم بشاي وهو في طريقه للكنيسة في دمياط.. تلك الكنيسة التي تقع بين المقابر.. وبدون سبب سوى التعصب يتعارك مع القديس ويقول له (اشمل يا نصراني) وكان سيدهم تاجر الخشب وديعا هادئا محبوبا من الكل وتطور الأمر أن تم اتهام سيدهم أنه أساء للإسلام ونبي الإسلام (يبدو أنها تهمة جاهزة منذ زمن بعيد) وطبعا هاج العامة وتدخل أحد المشايخ للتهييج وقبضوا على سيدهم بشاي وأوسعوه ضربا ولطما وسحلا حتى غطى الدم وجهه.. وبعد أيام قليلة عرضوه على خليل آغا محافظ المدينة والقاضي والمشايخ وشهبندر التجار.. وكان الأمر ببساطة أن يترك دينه ويسلم.. وغير ذلك سيكون القتل مصيره.. تمسك سيدهم بشاي بالمسيح وبالصليب وهنا صدر الأمر بجلده ٥٠٠ جلدة وقتله وهاجت المدينة ضد المسيحيين من الاقباط والأجانب.. وأمام محافظ المدينة تم ضرب سيدهم بشاي بالأحذية وسحله على درجات السلم وتهشمت عظام وجهه وهتف الغوغاء اقتلوه.. أحرقوه ونقلا عن مخطوطة معاصرة للحدث.. نجد ان شهيد المسيح تحمل كثيرا جداً. في اليوم الرابع أعادوا الكرة عليه حيث عروه من ثيابه بقصد الاستهزاء ومروا به في شوارع البلدة وألبسوه كرشة خروف من رأسه، ولطخوا جسده بالأوحال وعلقوا في رأسه مقشتين ملوثتين بالقاذورات وكلابين حديد فى جنبيه بهم قطع لحم وربطوا كلبين وقطة فيه ليتعاركوا ويهمروا فى لحمه. وأركبوه على جاموسة بالمقلوب وعلقوا على لحيته صليباً لوثوه بالقاذورات، وصاروا يزفونه فى كل البلدة كأنه للذبح!! وكان القديس صابرا في كل وقت مرددا يا طاهرة.. يا يسوع وقبل أن يسلم الروح طلب من صديق كان لجواره أن يحضر كرسيا للست الجليلة التي ترافقه في عذاباته ولم تكن سوى أم النور التي تجلت له قبل انطلاقه.. وكان الألم الأخير الذي اجتازه هو رش وجهه بقطران مغلي وبعدها انطلق حاملا عذاباته وأكاليل الشهادة والبتولية وكان ذلك في مارس 1844.. ويبدو جثمانه كما اكتشف حديثا انه تنيح وقت إلقاء الزيت المغلي عليه فكما يبدو في الصورة رافعا كتفيه لأعلى ووجهه متجه لليسار وكأنه يتفادى شيئا تم دفنه في مدافن الاقباط وكان ذلك سببا فى رفع الصلبان فى جنازات الاقباط وعلى قباب الكنائس..”.
واضح من القصة الخيالية أنها لا تستند على مصدر موثوق. يقول كاتب القصة إنه اعتمد على مخطوط معاصر للحدث. حسنا. ما اسم هذا المخطوط، ومن هو مؤلفه؟ وفي أي مكان يوجد؟ وهل هناك حوادث تشابه هذا الحدث منذ دخل الإسلام مصر؟ وهل الحمّار في القصة يعبر عن التشريع الإسلامي؟ ولماذا تصر الرواية الخيالية على شيطنة المسلمين وتعصبهم وظلمهم في الوقت الذي تصف فيه النصراني بالوديع المحبوب الثابت على إيمانه مهما لقي من تعذيب؟ ثم لماذا لم تنقذ أم النور من يؤمن بها ويراها معه في تعذيبه وتعرضه للظلم البشع؟ وهل كانت “اشمل يا نصراني” من ضمن تشريعات الإسلام الفاتح؟ أو المسلمين الضيوف على مصر كما وصفهم الأنبا بيشوي؟
ثم هل سمع العالم أن المسلمين طلبوا من نصراني إن يعلن إسلامه لينقذ حياته؟ في أي كتاب أو زمن؟ وهل يضيف هذا النصراني الذي يتحول كرها إلى الإسلام قوة للمسلمين؟ إن القرآن الكريم يعلنها صريحة داوية: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..” (البقرة: 256).
إن التعصّب المسلح بالخيال السقيم قادم من الضفة الأخرى، وأظن أن عامة الشعب المصري الآن تتمنى أن تحظى بشيء من التمييز في الاقتصاد والسياسة والإدارة والثقافة تحظى به الطائفة!
والسؤال الآن لماذا يهتم كتّاب النظام بالعزف على مظلومية الطائفة التي صارت متميزة وفوق الأكثرية الساحقة؟
هذا ما تنبئ عن بعضه رواية “غيوم فرنسية”.
العتبات والنهايات
يحمل غلاف الرواية ألوانا أساسية ثلاثة. الأحمر والأصفر والأزرق وألوانا أخرى مختلطة من مزيج هذه الألوان التي تشكل لون العلم الفرنسي تقريبا، مع صورة كبيرة لوجه تحار أن تصنفه لرجل أو امرأة. وعنوان الرواية مكتوب بخط مودرن أقرب إلى الكوفي، ويتساوى فيه البنط أو حجم الحروف بين اسم الكاتبة والعنوان، وكأنه يعبر عن اعتداد المؤلفة بنفسها وقوة حضورها، ولا أقول نرجسيتها.
هناك عنوان آخر للرواية باللغة الإنجليزية (French Clouds)، ولا أدري دلالة وجود العنوان الأجنبي لقارئ يفترض أنه عربي، ولغة الرواية عربية، هل الولع بالانتماء لثقافة مغايرة لثقافتنا العربية الإسلامية يعدّ نوعا من الحداثة والتنوير، علما أنه يفترض أن الكاتبة نشأت في الثقافة العربية الإسلامية وتربت، من خلال والدها الذي يوصف بالشيخ الأزهري المستنير؟! ولا تعني النشأة أو التربية في ثقافة ما أن يؤمن بها الشخص، فكل إنسان له اختياره الحر أو الموجه، ولكن مواضعات اجتماعية تفرض أن يكون هناك توافق معها وانطلاق من خلالها.
ناشر الرواية دار ابن رشد، وهناك من المثقفين في البلاد العربية من يرون في ابن رشد رمزا للعقل والتفكير الحر، الذي يفارق في مزاعمهم ثقافة النقل والانغلاق التي تحكم الفكر الإسلامي، وهي أكذوبة كبرى روج لها بعض المخاصمين للإسلام ونفر من الطائفيين فضلا عن الأرزقية الذين لا يعنيهم الفكر ولا العقل ولا المعتقدات، وإنما تعنيهم المصالح الخاصة الضيقة، فابن رشد هو ابن الإسلام الذي يؤمن بالوحي ولا يعده منتجا تاريخيا، وهو المسلم الذي يؤدي صلواته وعباداته الأخرى وفقا لما يمليه الوحي. ومساحة الاختلاف التي يمنحها الإسلام للمؤمنين به، لا ينفرد بها ابن رشد، ولكن كثيرا من العلماء المسلمين وأئمة المذاهب بل الفرق والطوائف المختلفة اجتهدوا في إطار الوحي والتنزيل الحكيم والحديث الشريف، وفعلوا ما فعله ابن رشد وأكثر، ولكن القوم فيما يبدو يحاولون علمنة ابن رشد وخلعه من الإسلام تحت لافتات الحداثة والتنوير والعقلانية..
الغزالي وابن رشد
ويطرأ على ذهني سؤال ساذج: لماذا يقفون مثلا من الإمام أبي حامد الغزالي موقفا معاديا؟ هل لأنه أدى دورا جليلا في توجيه المسلمين لمحاربة الصليبيين الغزاة في زمانه؟ هل لأنه أعد قومه بالتعليم والمعرفة لمواجهة طوفان الهمجية الصليبية الذي أغرق بلاد المسلمين؟ هل هناك من يمنحني الإجابة؟
ابن رشد الفكر العلماني أو دار النشر العلمانية توجّهٌ واضحٌ يأخذ موقفا غير متسامح من الإسلام والوحي، وهذا اختيار متاح لأصحابه، ولا يحق لهم أن يفرضوه على الأمة الإسلامية أو أكثريتها الساحقة. وإن كان ابن رشد في حقيقة الأمر مسلما يؤمن بشمولية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، كما يؤمن بثوابته الإيمانية والتشريعية وأركانه الخمسة.