لم يكن اصطفاء صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الله عز وجل مصادفة، فقد كان خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم، وهم أبرّ رجال هذه الأمة وأفضلها وأكثرهم علماً وأعمقهم فهماً وإخلاصاً.
وكان أكثرهم اصطفاء رجال القرآن، تلك الصفوة التي حملت بين يديها مهمة جمع القرآن وتدوينه ليصل إلينا كما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
واستكمالاً لمهمة التعريف بهم، نقدم شخصية الصحابي الجليل أُبي بن كعب، من أولئك الأولين الذين زكاهم الله عز وجل فقال فيهم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100).
من هو أُبي بن كعب؟
أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار(1)، سيد القراء أبو منذر الأنصاري النجاري المدني المقرئ البدري، ويكنى أيضاً أبا الطفيل، كان حبراً من أحبار اليهود، مطلعاً على علومهم، وحين أسلم أصبح كاتباً للوحي، ومن حفظة كتاب الله وأعلمهم بفقهه وعلومه.
شهد «بدراً» و«أُحداً» و«الخندق» و«بيعة العقبة»، وجمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على حياته صلى الله عليه وسلم، وحفظ عنه علماً مباركاً، وكان رأساً في العلم والعمل.
حدث عنه بنوه محمد، والطفيل، وعبدالله، وكذلك أنس بن مالك، وابن عباس، وسويد بن غفلة، وزر بن حبيش، وأبو العالية الرياحي وأبو عثمان النهدي، وسليمان بن صرد، وسهل بن سعد، وأبو إدريس الخولاني، وعبدالله بن الحارث بن نوفل، وعبدالرحمن بن أبزى، وعبدالرحمن بن أبي ليلى، وعبيد بن عمير، وعتي السعدي، وابن الحوتكية، وسعيد بن المسيب، وآخرون.
أولاً: إسلامه وعمله:
أسلم أبي بن كعب على يد مصعب بن عمير، وكان رجلاً دحداحة؛ يعني ليس بالطويل ولا بالقصير، وكان أبيض الرأس واللحية، كما جاء في «سير أعلام النبلاء».
وشهد بيعة العقبة الثانية التي قال النبي عليه الصلاة والسلام لأهلها: «فإن وفيتم فلكم الجنة»، وقد فعلوا رضي الله عنهم(2).
حفظ القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعرضه عليه، وتلقاه منه، وكان يقول: «إني تلقيت القرآن ممن تلقاه من جبريل وهو رطب»، وكان من القلائل الذين جمعوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أنس: «جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار؛ أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد رجل من الأنصار»، وكان أحفظَهم أُبي، فقد روى أبو داود عن ابن عمر قال: صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً فلُبِّس عليه، فلما انصرف قال لأُبي: «أصليت معنا؟»، قال نعم، قال: «فما منعك؟»؛ يعني أن تفتح عليَّ، وهذه شهادة أخرى من النبي صلى الله عليه وسلم له بالحفظ والإتقان.
وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أقرأ الأمة، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أُبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (رواه الترمذي).
وقد عرف ذلك له بين الصحابة حتى قال عمر: «أقضانا عليّ، وأقرؤنا أُبي».
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يتعلموا منه ويأخذوا عنه فقال: «استقرئوا القرآن من أربعة؛ من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل».
ثانياً: فهمه وفقهه:
روى البخاري، ومسلم، عن أُبيٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» (وفي رواية مسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) (البينة: 1)»، قال أُبيّ: وسماني الله لك؟ قال: «نعم»، قال: وذكرت هناك؟ قال: «نعم»، فذرفت عين أُبي وجعل يبكي.
وفي المسند أن أُبياً حدث بهذا الحديث، فقال له عبدالرحمن بن أبزى: وفرحت بذلك؟ قال: وما يمنعني أن أفرح والله تعالى يقول: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58) (رواه البخاري، ومسلم)؛ قال القرطبي: تعجب أبي بن كعب من ذلك؛ لأن تسمية الله له ونصه عليه ليقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم تشريف عظيم، فلذلك بكى إما فرحاً وإما خشوعاً، قال أبو عبيد: المراد بالعرض على أُبي ليتعلم منه القراءة ويتثبت فيها، وليكون عرض القرآن سُنة، وللتنبيه على فضيلة أُبي بن كعب وتقدمه في حفظ القرآن، وليس المراد أن يستذكر منه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بذلك العرض.
ويؤخذ من هذا الحديث مشروعية التواضع في أخذ الإنسان العلم من أهله وإن كان دونه، وقال القرطبي: خص هذه السورة بالذكر لما اشتملت عليه من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة والنار مع وجازتها(3).
ثالثاً: علاقته بالقرآن:
كان لأُبي ارتباط عجيب بالقرآن، فكان يختم كل ثمانٍ، وكان ذا فهم في كتاب الله وصاحب تدبر ومعرفة، سأله النبي صلى الله عليه وسلم مرة، كما في صحيح مسلم قال أبي: قال رسول الله: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟»، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟»، قال: قلت: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، قال: «فضرب في صدري وقال: «وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» (رواه مسلم).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه ويخصه في هذا الباب، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها؟»، قلت: بلى، قال: «فإني أرجو أن لا أخرج من ذلك الباب حتى تعلمها»، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت معه، فأخذ بيدي فجعل يحدثني حتى بلغ قرب الباب، قال: فذكّرته فقلت: يا رسول الله، السورة التي قلت لي، قال: «فكيف تقرأ إذا قمت تصلي؟»، فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: «هي هي، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه».
رابعاً: حبه للنبي صلى الله عليه وسلم:
كان أُبي بن كعب من أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم عليه صلاة، فقد أخرج الترمذي عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: «يا أيها الناس، اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه»، قال أُبي: قلت، يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: «ما شئت»، قال: قلت: الربع؟ قال: «ما شئت فإن زدت فهو خير لك»، قلت: النصف؟ قال: «ما شئت، فإن زدت فهو خير لك»، قال: قلت: فالثلثين؟ قال: «ما شئت، فإن زدت فهو خير لك»، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: «إذن تكفى همك، ويغفر ذنبك»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
خامساً: مجاب الدعوة:
كان أُبي عبداً صالحاً صاحب عبادة، وكان مستجاب الدعوة، فعن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا، قال: فخرجنا فكنت أنا وأُبي بن كعب في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فقال أُبيّ: اللهم اصرف عنا أذاها، فلحقناهم وقد ابتلت رحالهم، فقال عمر: ما أصابكم الذي أصابنا؟ قلت: إن أبا المنذر دعا الله أن يصرف عنا أذاها، فقال عمر: ألا دعوتم لنا معكم(4)؟
وفاته
اختلف المؤرخون في عام وفاته، فقيل: مات في العام التاسع عشر، وقيل: العشرين في خلافة عمر، وهو الأرجح، وقيل: في خلافة عثمان ورجحه الواقدي.
وعندما توفي ضجت المدينة، وماج أهلها، وقالوا: مات اليوم سيد المسلمين(5).
_______________________
(1) سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، ص 390.
(2) المرجع السابق.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ج7، ص 159.
(4) سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، ص 398.
(5) المرجع السابق.