يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً {41} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الأحزاب)، ويقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21)، ويقول سبحانه يصف حال المؤمنين: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) (آل عمران: 191).
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «ذكر الله عزَّ وجلَّ» (رواه الترمذي).
إن من أيسر العبادات وأجلها وأعظمها هي عبادة ذكر الله عز وجل، فمن أجلها أرسل الأنبياء، وشرعت العبادات، وخلق الإنسان، وبه يطمئن قلب المؤمن؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد 28).
ويقول الإمام الغزالي في «إحيائه»: «اعلم أن الناظرين بنور البصيرة علموا أنه لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى، وأن المحبة والأنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه، وأن المعرفة به لا تحصل إلا بدوام الفكر في مخلوقاته وفي صفاته وأفعاله، وليس في الوجود سوى الله تعالى وأفعاله، ولن يتيسر الذكر والفكر إلا بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقدر البلغة والضرورة وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار»(1)، فالذكر لا يعطله عمل، ولا يوقفه انشغال، وهو حال المؤمن في كل أحواله وهو ديدنه يرجو به معية الله ومحبته والركون إليه.
فضل الذكر
وللذكر فضل عظيم في حياة المسلم، يبدلها لتستقيم كما أمر رب العالمين، منه:
– يفرق بين مسلم وآخر، فعن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الذي يذكر ربَّه، والذي لا يذكر ربَّه، مَثَلُ الحيِّ والميت» (رواه البخاري).
– يثبت المؤمنين عند النزال وحال ملاقاة الأعداء، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 54).
– يبلغ من عظم أمر الذكر أن يأمر الله به عز وجل به دبر الصلوات والعبادات، فيقول تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) (النساء: 103)، ويقول تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10)، وفي مناسك الحج: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة: 200).
– به ينال ذكر الله عز وجل، فيقول تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152).
– مضاعفة الحسنات بذكر ما يحب الله عز وجل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا يضرُّك بأيِّهنَّ بدَأتَ» (رواه مسلم).
وأخرَج الإمام مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لأنْ أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبُّ إليّ مما طلَعت عليه الشمس»، وأخرج الترمذي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيتُ ليلة أُسري بي إبراهيمَ الخليل عليه السلام فقال: يا محمد، أقْرِئ السلام أُمَّتك، وأخبرهم أنَّ الجنة طيِّبة التربة، عَذبة الماء، وأنها قِيعان، وأنَّ غِراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».
– مسابقة أهل الدثور والأموال: فعن أبي هريرة قال: جاء الفقراء إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: ذهَب أهل الدُّثُور من الأموال بالدَّرجات العُلا والنعيم المُقيم؛ يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضلٌ من أموال يحجُّون بها ويَعتمرون، ويُجاهدون ويتصدَّقون، قال: «ألا أحدِّثكم إن أخَذتم، أدْرَكتم مَن سبَقكم، ولَم يُدرككم أحدٌ بعدكم، وكنتم خيرَ مَن أنتم بين ظَهْرانيه، إلاَّ مَن عَمِل مثله؛ تُسبِّحون وتَحمدون، وتُكبِّرون خلف كلِّ صلاة ثلاثًا وثلاثين» (أخرجه البخاري).
من صور الذكر
وللذكر صور كثيرة أفضلها وأعلاها تلاوة القرآن وحلقات تدارسه، يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر: 29)، وقال سبحانه: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 21).
وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السَّفَرَةِ الكرام البَرَرَةِ، والذي يقرأ القرآن ويَتَتَعْتَع فيه، وهو عليه شاقٌّ، له أجران» (البخاري ومسلم).
وعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه» (رواه مسلم).
وعن النواس بن سمعان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدُمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان -أي: سحابتان- أو ظُلَّتان سوداوان بينهما شَرْقٌ -أي: ضياء ونور- أو كأنهما حِزقان -أي: قطيعان- من طير صوافٍّ -أي: باسطات أجنحتها في الطيران- تُحاجَّان -أي: تدافعان- عن صاحبهما» (رواه مسلم).
ولا يتوقف الذكر عند قراءة القرآن، على عظمته، وإنما يمتد إلى أذكار أخرى تحمل فضلاً عظيماً تستوعب حياة الإنسان وحاله جميعاً، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده» (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر» (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا عبدالله بن قيس، ألا أدلُّك على كنز من كنوز الجنة؟»، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: «قل: لا حول ولا قوة إلا بالله» (البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عَدْلَ عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حِرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك» (رواه البخاري)، وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماوات والأرض..» (رواه مسلم).
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفَّتهم الملائكة، وغشِيَتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده» (رواه مسلم)، وروى الترمذي عن عبدالله بن بسر، أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبَّث به، قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله» (رواه الترمذي).
ثمرات الذكر
وللذكر ثمرات عظيمة ذكر منها ابن القيم أكثر من سبعين في كتابه «الوابل الصيب»، نذكر منها خمساً:
1- يطرد الشيطان ويُرضي الرحمن.
2- يزيل الهم والغم عن القلب، ويجلب له الفرح والسرور.
3- يجلب للعبد الأرزاق والنعم، ويدفع عنه الشرور والنقم.
4- يُنوِّر وجه العبد وقلبه، ويكسو الذاكر المهابة والحلاوة
5- يورث الذاكر المحبة التي هي روح الإسلام، ويسهل له الصعب.
________________________
(1) المستخلص في تزكية الأنفس، الشيخ سعيد حوى، ص 92.