«إن هذا القرآن يرفع أقواماً ويخفض أقواماً»، كان سالم عبداً يعيش في مكة ككل عبيدها لا قيمة لهم ولا شأن ولا يذكرهم أحد إلا من باب الملكية، حتى أتى الإسلام فرفع من شأنه ووضعه في مصاف الصحابة الكبار، وتبناه أحد الصحابة الكبار بعد عتقه وهو الصحابي الجليل أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وكان من أشراف قريش وسادتها.
وظل سالم يعيش في كنف أبيه بالتبني أبي حذيفة، حتى نزل قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 5)، وقد نزلت الآية في زيد بن حارثة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يتبناه حتى نزولها، فعاد زيد رضي الله عنه لاسم أبيه الحقيقي، وصار يدعى سالماً مولى أبي حذيفة؛ لأنه لم يكن يعرف اسم أبيه، وصار أخاً ورفيقاً، ومولى للذي كان يتبناه، وبفضل من الله ونعمة على سالم بلغ بين المسلمين شأواً رفيعاً وعالياً، أهّلته له فضائل روحه، وسلوكه وتقواه، وعرف الصحابي الجليل بهذه التسمية «سالم مولى أبي حذيفة»، وآمن بالله إيماناً مبكراً، وأخذ مكانه بين السابقين الأولين(1).
وقد سبق أبو حذيفة بن ربيعة إلى الإسلام رغماً عن والده، وهو من زعماء الكفر وصناديد قريش، وقد كان يعد ولده للزعامة، وحين أسلم سالم وتبناه أبو حذيفة، عبدا الله معاً وصبرا على أذى قريش.
قال عنه الذهبي في السير: «سالم مولى أبي حذيفة من السابقين الأولين البدريين المقربين العالمين»، وسالم في أصله من اصطخر من بلاد فارس، كان في بداية أمره مملوكاً لثبيتة بنت يعار الأنصارية الأوسية، زوجة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، فأعتقت ثبيتة سالماً، فتبناه زوجها أبو حذيفة، وكان يحبه حباً شديداً، حتى إنه زوّجه من ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة(2).
1- محبته للقرآن:
أسلم سالم قديماً في مكة، وكان محباً لكلام الله وقرآنه، حريصاً على حفظه، حتى إنه لما هاجر المسلمون للمدينة كان يُقدّم للإمامة في الصلاة على المهاجرين في قباء، قبل قدوم النبي محمد إلى يثرب، لأنه كان أقرأهم لكتاب الله، كما رُوي ذلك عن عبدالله بن عمر، ولفظه: «لما قدم المهاجرون الأولون العصبة قبل مقدم رسول الله كان سالم يؤمهم»، وفيهم عمر، وأبو سلمة بن عبد الأسد.
وقال الواقدي: حدثنا أفلح بن سعيد عن محمد بن كعب القرظي، قال: «كان سالم يؤم المهاجرين بقباء فيهم عمر قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم».
2- ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض الصحابة أن يتعلموا القرآن من أربعة من قرائهم، وكان سالم واحداً من هؤلاء الأربعة.
فعن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا القرآن عن أربعة؛ من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل» (رواه البخاري، ومسلم).
وقوله: «باب مناقب سالم مولى أبي حذيفة»؛ أي ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان مولاه أبو حذيفة بن عتبة من أكابر الصحابة وشهد «بدراً» مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل أبوه يومئذ كافراً فساءه ذلك فقال: كنت أرجو أن يسلم، لما كنت أرى من عقله، واستُشهد أبو حذيفة باليمامة، وأما سالم فكان من السابقين الأولين، وقد أشير في هذا الحديث إلى أنه كان عارفاً بالقرآن، وسبق في كتاب الصلاة أنه كان يؤم المهاجرين بقباء لما قدموا من مكة، وشهد سالم «بدراً» وما بعدها، ويقال: إن اسم أبيه معقل، وكان مولى لامرأة من الأنصار فتبناه أبو حذيفة لما تزوجها فنسب إليه، واستشهد سالم بـ«اليمامة» أيضاً(3).
وقد كان سالم حسن التلاوة للقرآن، ندي الصوت، يرقق القلوب بتلاوته، ويبهج النفوس بقراءته، ويجذب الناس لسماع ترتيله، وقد روى الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن سابط عن عائشة رضي الله عنها قالت: استبطأني رسول الله ذات ليلة، فقال: «ما حبسك؟»، قلت: إن في المسجد لأحسن من سمعت صوتاً بالقرآن، فأخذ رداءه وخرج يسمعه، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة؛ فقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك» (إسناده جيد).
3- ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما إن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى لازمه سالم كغيره من المسلمين، وسمع منه الكثير من الأحاديث، وقد روى عنه ثابت بن قيس بن شماس، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وقد آخى النبي عليه الصلاة والسلام بينه وبين معاذ بن ماعص الأنصاري، وقيل: بينه وبين عبدالرحمن بن عوف، ولكن إسناده منقطع، كما قال الذهبي رحمه الله(4).
4- منزلته بين الصحابة:
كان سالم من سادات المسلمين، وكبراء الصحابة، وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزكاه.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكثر من الثناء عليه، وقد بلغ من تزكيته له أنه اعتبره أهلاً للخلافة، فقد ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن عمر أنه لما احتضر قال: «لو كان سالم حياً لما جعلتها شورى»(5).
وأخرج الإمام أحمد في المسند عن أبي رافع أن عمر بن الخطاب قال: «لو أدركني أحد رجلين، ثم جعلت الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح»، وقال أيضاً: «لو استخلفت سالما مولى أبي حذيفة ثم سألني عنه ربي: ما حملك على ذلك؟ لقلت: رب، سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه يحب الله تعالى حقاً من قلبه»(6).
5- جهاده واستشهاده:
كان سالم شغوفاً بالجهاد، طالباً للشهادة، مواظباً على حضور الغزوات التي غزاها رسول الله عليه الصلاة والسلام، حريصاً على ألا يفوته شيء منها.
وقد كان من الذين شهدوا «بدراً» مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتل معه فيها قتال الأبطال، وكان في مقدمة الصفوف، وكان ممن حضر «أُحداً» و«النضير» و«قريظة» و«الأحزاب» و«الحديبية»، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الموت على دخول مكة عنوة، وقال الله فيه وفي الذين معه: (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح: 18)، وشهد «فتح مكة»، وغزوة «حنين» و«الطائف» و«مؤتة» وغيرها، كما أنه كان في جيش أسامة الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه لتأديب الروم وغزوهم قبل وفاته مباشرة عليه الصلاة والسلام.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتداد العرب شارك مع الصِّدِّيق في حروب المرتدين، وأبلى فيها بلاء حسناً، وفيها كان استشهاده راضياً مرضياً، مدافعاً عن دين الله، ومجاهداً في سبيله.
وقد كان استشهاده في معركة «اليمامة» في قتال مسيلمة الكذاب وبني حنيفة، وكان واحداً من أبطالها وحامل لواء المسلمين فيها.
قال ابن كثير: لما أخذ الراية يوم «اليمامة» بعد مقتل زيد بن الخطاب، قال له المهاجرون: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذاً. (البداية والنهاية، 6/ 337).
وقد كانت معركة هائلة، وحرباً ضروساً، ذكر الواقدي أنه: «لما انكشف المسلمون يوم «اليمامة»، قال سالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفر لنفسه حفرة فقام فيها، ومعه راية المهاجرين يومئذ، ثم قاتل، فقطعت يده اليمنى، فأخذها بيساره، فقطعت فاحتضنها وهو يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144)، فما زال يحمل الراية حتى صرع، فلما أحس بقرب موته قال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟ قالوا: قتل، قال: فما فعل فلان، قالوا: قتل، قال: فأضجعوني بينهما (أي: ادفنوني بينهما).
وفي الاستيعاب لابن عبد البر قال: قتل سالم ومولاه أبو حذيفة، فوجد رأس أحدهما عند رجلي الآخر، وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
_______________________
(1) رجال حول الرسول، خالد محمد خالد، ص460.
(2) سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج7، ص127.
(4) رجال حول الرسول.
(5) البداية والنهاية، ابن كثير، ج6، ص336.
(6) حلية الأولياء (1/ 177).