قد يظن البعض أن التكافل في الإسلام له صور محددة، لا تخرج عن مصارف الزكاة والصدقات، لكن واجب الوقت في هذا المضمار تحديداً، يتطلب التسابق في الخير، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: 26)، والبحث عن صور جديدة ومستحدثة للتكافل.
من هذه النقطة تحديداً، تفرض التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية من حروب وأوبئة وكوارث طبيعية وأزمات اقتصادية، أن يجري على عجل تعزيز وتوسيع مجالات التكافل بين الدول وبعضها، وإنشاء المنظمات المعنية بذلك، وتوفير قاعدة بيانات بالفوائض التي تمتلكها الدول والشعوب، وتوفير الآليات التي تضمن تكافلاً عربياً وإسلامياً واسع النطاق والتأثير، بما يجعل من التكافل مظلة إقليمية ودولية تخدم أكثر من 50 دولة مسلمة.
ولعل هذا المنطلق يفتح أبواباً جديدة للتعاون الاجتماعي، ويستحدث صوراً جديدة للتكافل، فما يتطلبه مجتمع ما قد لا يناسب آخر، وما تحتاجه دولة قد يكون متوافراً في دولة أخرى دون حاجة إليه، وما هو فائض هنا، قد يكون شحيحاً هناك، وهو ما يحول التكافل من اجتهادات فردية أو جماعية، إلى عمل مؤسسي ودولي متكامل.
ومن الصراحة، القول: إن العمل التكافلي انحصر أو تركز بشكل كبير في صور محددة، مثل مساعدة الفقراء والمرضى، وكفالة الأيتام، وتزويج الفتيات، وتقديم العون للأرامل، وتسديد ديون الغارمين، وغير ذلك من مظاهر البر، لكنه ظل أسيراً لتلك الصور، دون تطور وابتكار، واستحداث صور جديدة تناسب العصر، وتواكب التحديات القائمة، التي تتعاظم يوماً بعد الآخر، في ظل ثورة الاتصال والتواصل، والتقدم التكنولوجي الهائل.
نعم، هناك جهات ودول، ربما نجحت في إيجاد صور تكافلية جديدة، لكن الأمر لم يتحول بعد إلى ثقافة عامة تشيع في المجتمعات المسلمة، باتجاه تحويل التكافل إلى سياسة مستدامة، وخطط تنمية واعدة، على غرار الخطط السنوية والخمسية والعشرية التي تحكم اقتصادات العالم.
وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أبواب جديدة للتكافل، أبرزها ما يتعلق بالاهتمام بالابتكار والاختراع والبحث العلمي، وتوجيه تبرعات الخير إلى الاهتمام بالعلماء والباحثين في مجالات نادرة وتخصصات نوعية مثل الطب والهندسة وعلم الأوبئة والحوسبة والذكاء الاصطناعي والاتصالات والإلكترونيات، على أن تكون هناك معاهد ومختبرات علمية ومراكز متخصصة، تجد من يتكفل بها.
وأظن أن جائحة كورونا وما فرضته على الأمة من استيراد مليارات اللقاحات بفاتورة باهظة من مليارات الدولارات، يحتم علينا سد تلك الثغرة، والتكافل كدول ومنظمات وجامعات؛ لإحداث ثورة في علوم الأوبئة والأمراض المستعصية، وامتلاك الدواء، حتى لا نكون أسرى لشركات غربية، قد تتاجر بآلامنا، إلى أمد بعيد.
إلى متى ننتظر السمكة، والمثل الشهير يقول: «لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطادها»، فالسمكة قد لا تكفي حاجتنا، وقد تتضارب المصالح فتحجب السمكة عنا، أو تدفع إلينا منزوعة الدسم، كما يحدث في صفقات السلاح التي لا تضاهي ما يمنح للاحتلال «الإسرائيلي» على سبيل المثال.
إن من صور التكافل التي يجب استحداثها، على مستوى الدول، التصنيع والإنتاج المشترك للدواء والسلاح وغيره من احتياجات الشعوب، بينما على مستوى الأفراد والهيئات والجمعيات الخيرية، أن يتجه التكافل صوب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتحويل كل محتاج أو فقير إلى عنصر إنتاج، لا متسولاً ينتظر عدة دنانير أو ريالات كل يوم.
ومن واجب المسلمين التكافل فيما بينهم على تنشئة الأبناء تنشئة إسلامية عن طريق إنشاء المحاضن والمدارس والجامعات ذات التوجه الإسلامي؛ لمقاومة الغزو الثقافي والتعليم الأجنبي الذي سيطر على بلادنا، وسط مباهاة من أبناء المسلمين بأنه خريج جامعة كذا وكذا، في نظرة دونية لجامعاتنا التي تخرج سنوياً من قائمة أفضل 100 جامعة حول العالم.
ومن التكافل في صوره الجديدة مواجهة التلوث البيئي، وإطلاق مبادرات النظافة والتجميل والتنسيق الحضاري، ودعم المشروعات الخضراء، وتدوير النفايات، وتخضير الصحراء، وتشجير الشوارع، وكل ما يندرج ضمن خطط مواجهة التغير المناخي والاحتباس الحراري، وهي مشروعات طموحة، لا يجب التقليل منها، وليكن البدء بـ«ازرع شجرة».
ولا شك أن مبادرة «المساجد الخضراء» التي أطلقتها منظمة «غرينبيس (السلام الأخضر) الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، عام 2021م، تعد نقطة إشعاع تكافلي، نحو مواجهة أزمة المناخ، من خلال دعم تحول 10 مساجد كبرى حول العالم إلى استخدام الطاقات المتجددة.
تضم القائمة المسجد الحرام بمكة المكرمة، المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنوّرة، الجامع الأزهر بالقاهرة، مسجد الاستقلال بجاكرتا، الجامع الأموي بدمشق، جامع الجزائر الكبير بالجزائر العاصمة، مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، مسجد غلاسكو المركزي في غلاسكو، الجامع الكبير في لاهور، مسجد النظامية في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا.
وتفيد دراسة علمية بأن المشروع يتيح توليد 22.3 جيجا واط ساعة من الطاقة الكهربائيّة سنوياً، وتخفيض 12025 طناً مترياً من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وبالتالي الاستغناء عن حرق أكثر من 5 ملايين لتر من البنزين، أو الحفاظ على 1107 هكتارات من الغابات، وهو ما يعادل جهود أكثر من 37 ألف شخص في تخفيض استهلاك الطاقة.
وفق الدراسة، سينتج المسجد النبوي 6190 كيلوواط من الطاقة في السنة، ما يوفر مبلغا يصل إلى 395 ألف دولار، وكذلك خفض 3199 طناً من انبعاثات الغازات، وهو ما يعادل عدم استخدام 586 سيارة سنوياً، وتوفير 1.3 مليون لتر من البنزين، وتدوير أكثر من ألف طن من النفايات.
ومن مظاهر التكافل التي تعاني التهميش، رعاية اللقيط، حتى غدت ظاهرة أطفال الشوارع مقلقة متنامية، في وقت بلغت أعدادهم وفق تقديرات الأمم المتحدة 150 مليون طفل حول العالم، الكثير منهم في دول عربية وإسلامية، دون إحصاءات رسمية حول حجمهم، ما يفرض تحدياً كبيراً يتمثل في القضاء على تلك الظاهرة، وتوفير مدارس ومحاضن تربوية واجتماعية لهذه الفئة التي تشكل خطراً على المجتمعات، بل وتحويلهم إلى عنصر قوة من خلال تجنيدهم مثلاً أو تعليمهم صنعة ما.
ويعد إنشاء المنابر الإعلامية الهادفة المرئية والمسموعة والمقروءة، صورة تكافلية تتطلب التعاون لتبليغ دعوة الله ورسالة الإسلام بلغات مختلفة، إضافة إلى تسخير تطبيقات التواصل الحديثة لخدمة الإسلام، فالتكافل يجب ألا يتوقف عند حدود التكافل المالي، بل يتوسع ويتمدد ليشمل التكافل الاقتصادي، والإعلامي، والثقافي، والفكري، والمعنوي، فليس من المقبول أن نترك أبناء الأقليات المسلمة في الغرب فريسة لخطر زوال الهوية.
ونختم بتجربة «بنك الوقت» الذي أنشأته أكثر من 40 دولة حول العالم، ولنا في ذلك درساً بليغاً، في ابتكار صور جديدة للتكافل، حيث تقوم فكرة البنك على أن ينخرط الشباب بشكل تطوعي لرعاية المسنين، مقابل استخدام هذا الوقت لاحقاً، للحصول على الرعاية نفسها، فإذا أنفق شخص ساعة في خدمة مريض، أو في مجالسة مسن، على سبيل المثال، يكون قد اكتسب وحدة زمنية تودع في حسابه ويستطيع استخدامها في شراء خدمة أخرى.
إننا في حاجة ماسة لابتكار صور ومبادرات وآليات وأدوات جديدة للتكافل، كتعميم فكرة بنوك الوقت، والمساجد الخضراء، والمختبرات البحثية، ومحاضن التنشئة، وقنوات التوعية، وغيرها، بما يخرج بمنظومة التكافل من الشرنقة إلى آفاق أوسع.