إن حُسن المظهر غاية يسعى إليها كثير من البشر، ومحاولة التجمُّل أمام الآخرين فطرة قد فُطر الخلق عليها.
والاهتمام بالشكل الخارجي للإنسان لا يتنافى مع الدين، بل دعا الدين إليه؛ فقال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف: 31).
وعندما رأى النبي ﷺ رجلاً لم يهتم بنفسه، وأشاع في المكان حوله تلوثًا بصريًّا بسوء منظره، أخرجه من المسجد ليصلح نفسه؛ قال عطاء بن يسار: كان رسول الله ﷺ في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله ﷺ بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل، ثم رجع فقال رسول الله ﷺ: «أليس هذا خيرًا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان»(1).
وزينة الإنسان أمر منفصل عنه؛ لذا يسعى إليه ويطلبه، على عكس الحيوانات؛ إذ إن زينتها فيها غير منفصلة عنها؛ فالطيور، مثلاً، جمالها في ريشها وألوانها وحركاتها؛ لذا أنزل الله اللباس على البشر حتى يتزينوا وليحاربوا الشيطان بالستر؛ قال تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا) (الأعراف: 26).
وكلما حافظ الإنسان على ستره ولباسه اقترب من الله والفطرة، وكلما بعد اقترب من الحيوانية والشيطان.
وأن يشتري الإنسان أجود الأصناف وأفضلها أمر لا مرية فيه، بل أن يسعى إلى جلبها من خارج بلده بالاستيراد فأمر غير منكور؛ فالرسول ﷺ كان يتم استيراد الملابس أيامه من اليمن ومصر، ولم يكونا من ديار الإسلام بعد؛ فعن دحية بن خليفة الكلبي أنه قال: أُتي رسول الله ﷺ بقباطي فأعطاني منها قُبطية فقال: «اصدعها صدعين (يريد: شقها نصفين) فاقطع أحدهما قميصًا، وأعط الآخر امرأتك تختمر به»، فلما أدبر قال: «وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوبًا لا يصفها»(2).
قال القاري: «بِقَبَاطِيَّ» بِفَتْحِ الْقَافِ وَمُوَحَّدَةٍ وَكَسْرِ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ جَمْعُ: قُبْطِيَّةٍ، وَهِيَ -عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ- ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِ مِصْرَ رَقِيقَةٌ بَيْضَاءُ، كَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقِبْطِ، وَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ، وَضَمُّ الْقَافِ مِنْ تَغْيِيرِ النَّسَبِ، وَهَذَا فِي الثِّيَابِ، فَأَمَّا فِي النَّاسِ فَقِبْطِيٌّ بِالْكَسْرِ(3).
وعند وفاة الرسول ﷺ أُدْرِجَ فِي حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ كَانَتْ لِعَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ نُزِعَتْ عَنْهُ وَكُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ سُحُولٍ يَمَانِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا عِمَامَةٌ وَلاَ قَمِيصٌ(4).
والأمر ليس محصورًا في الملابس؛ فكذا الأمر في السيوف والحراب وغيرها، وهذا ما يمكن إطلاق «العلامة التجارية» عليه.
وفي الغالب، فإن العلامات التجارية الأصلية تكون غالية الثمن عن نظائرها من العلامات الأخرى، وبطبيعة الحال تكون العلامات التجارية المقلدة أرخص بكثير.
ويسعى الكثيرون للعلامات التجارية المشهورة؛ لأنها أجود وأفضل، ويتغاضون عن غلائها؛ لأن عمرها الافتراضي أكبر من غيرها.
وهناك من يسعى إليها ويفتتن بها من باب الوجاهة الاجتماعية؛ فيلبس، مثلاً، العلامات التجارية المشهورة ليقال: إنه يلبسها، أو يأكل في مطاعم مشهورة عالمية أو مقاهٍ مشهورة؛ لأنها يرتادها علية القوم وذوو الأموال والثروات.
وقد يُكثر من ذلك فيشتري ما هو فوق الحاجة؛ فلا هو استفاد منها، ولا وفَّر مبالغها، ولا هو أهداها فكسب قلوب أحبابه وأصدقائه، ولا تصدق بها على غيره لينتفع بها فتكون حسنة له في صحفه.
وهناك من يسعى لأمثال هذه العلامات العالمية فقط؛ لأنه يتنكر لبلده، ويسعى لتقليد الغرب والآخر في ملبسه ومأكله ومشربه؛ فيزدري بني جلدته، وييمم وجهه للغرب ويجعلهم قبلته في كل شيء في الأفكار والأشكال والهيئات والمعاملات.
وقدرة الناس على الشراء تختلف وتتفاوت بتفاوت الأرزاق؛ قال تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (النحل: 71)؛ فغلاء بعض العلامات التجارية يكون أمرًا نسبيًّا؛ فما يراه البعض غاليًا يكون مقبولاً جدًّا عند غيرهم.
لكن هناك فئة من الناس يعمدون إلى شراء البضائع والسلع من العلامات التجارية الكبرى المشهورة، ويترك البديل الأرخص بزعم أن ذلك من إظهار أثر النعمة عليه التي أمرنا الله بإظهارها، ويستشهد بحديث رواه أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَعَلَيْهِ مِطْرَفٌ مِنْ خَزٍّ لَمْ نَرَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ»(5).
وهؤلاء ليسوا على درجة من الغنى تمكنهم من عدم الاهتمام بالغلاء، بل هم في أحوج ما يكونون لكل مبلغ يتم توفيره.
بل إنهم في بعض الأحيان يعيشون على أقل القليل من المال، وقد تنحدر بهم الأحوال للاقتراض لكي يأكلوا.
فما أغنتهم تلك العلامات التجارية؟
وهل هم بذلك قد أظهروا نعمة الله عليهم، أم أنهم أهدروها فيما له بديل؟
إن هذا من سوء التصريف، والجري وراء ما لا غناء فيه، وفهم للحديث فهمًا مغلوطًا، ويعد من التبذير الذي نهينا عنه في قوله تعالى: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً {26} إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء).
فلو الغنى كان حالة ثابتة عند هذا الصنف لما أُنكر عليهم منكر، لكن تذبذب الأحوال بين الفقر والغنى يدعو للتدبير والاقتصاد والادخار، وليس لإنفاق المال في مظاهر كاذبة لا يدوم نفعها لصاحبها.
_____________________
(1) أخرجه مالك في «الموطأ»، ح(1702).
(2) أخرجه أبو داود في «اللباس»، باب: «باب في لبس القباطي (ثياب تعمل بمصر) للنساء»، ح(4116)، وضعَّفه الألباني في «ضعيف سنن أبي داود».
(3) مرقاة المفاتيح (7/ 2790).
(4) أخرجه مسلم في «الجنائز»، باب: «فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ»، ح(941)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5) أخرجه أحمد في «المسند»، ح(19934)، وصحح إسناده الشيخ شعيب الأرنؤوط.