وقبل أن أنتهي إلى ذكر الرجل الثالث أحب أن أنبه القارئ، وأنبه قومي العرب في كل مكان، وفي مصر خاصة، إلى أنه ما كاد “يهود مصر” يعلمون نبأ إذاعة هذا الحديث في الصحف حتى تبادروا إلى غبطته يريدون أن يثنوه عن نشره وإذاعته. فما معنى هذا الذي يفعله اليهود الذين خلعنا نحن عليهم الجنسية المصرية؟ وماذا تقول حكومتنا في هؤلاء القوم الذين يريدون أن يكونوا أعوانًا للصهيونية في قلب بلادنا في هذه الساعة؟ أو يحدث هذا في مصر في الأسبوع الماضي، وإذا بنا نقرأ اليوم (8 ديسمبر سنة 1947) أن الشرطة العراقية ألقت القبض عند الحدود العراقية السورية على ثلاثة يهود عراقيين من موظفي شركة الزيت العراقية ومعهم جهاز إرسال لاسلكي. فما معنى هذا؟ ليعلم اليهود أن العرب لن يقبلوا أن يكون للطابور الخامس عمل في بلادهم.
وننتهي من هذا التعليق لنضم إليه خبر الرجل الثالث الذي ينبغي أن يعرفه العرب والمسلمون، فقد أفضى سيادة حاييم ناحوم أفندي الحاخام الأكبر للطائفة «الإسرائيلية» في مصر بالتصريح الآتي: “إني أرى أن مركزي بوصف كوني رئيسًا دينيًّا وروحيَّا لأبناء الطائفة «الإسرائيلية»، يحول بيني وبين الخوض على صفحات الصحف في أي مناقشات مهما كان نوعها أو الغرض منها. ولكن إزاء كثرة ما وجه إلينا من أسئلة واستفهامات أرى أن واجبي يحتم على أن أتوجه إلى السائلين وإلى جموع الأمة المصرية الكريمة بكلمة أرجو أن تكون حدًّا فاصلا لهذا الموضوع: فأبناء الطائفة «الإسرائيلية» التي أتشرف برياستهم الدينية هم جزء لا يتجزأ من الأمة المصرية، يشعرون بشعورها ويتألمون لألمها. فكيف إذن يحاول البعض التشكيك في عواطفهم نحو أبناء بلدتهم المصريين. إن دستور البلاد يكفل لنا جميع الحقوق الممنوحة لأبناء مصر الكريمة سواء بسواء، ولذلك فإن واجبنا نحو بلادنا يجعلنا نعمل بشعورنا كمصريين. وقد أصدرت أمري إلى رجال الكنائس الإسرائيلية بإقامة الطقوس الدينية ليعظوا فيها أبناء الطائفة على أن يتضافروا مع إخوانهم المصريين في هذا الظرف العصيب”.
ونحن نشكر الحاخام الأكبر، ولكن ليعلم سيادته أنه قبل أن يتوجه إلينا بكلام يكون “حدًّا فاصلا” ينبغي أن يعمل هو وأبناء طائفته عملا يكون “حدًّا فاصلا”، وهذا مع الأسف لم يحدث قط، وأخشى أن أقول إنه لن يحدث قط. ثم ليأذن لنا سيادته أن نوجه نظره الكريم إلى الذي ذكرناه وذكرته الصحف ولم يستنكره أحد من يهود مصر، وهو ذهاب بعض المسئولين من اليهود في ثغر الإسكندرية كي يثنوا البطريق الأعظم للروم الأرثوذكس عن إذاعة حديثه. أهذا أيضًا إقحام للدين في السياسة.
وليأذن لنا سيادته أن نقول له إننا نعيش في أرض مصر، واليهود يعيشون معنا فيها لا في المريخ، وأننا نعلم علمًا يقينًا أن جمهورًا كبيرًا من شباب اليهود في مصر، يجري بينهم الحديث وبين المصريين، فلا نجد أحدًا منهم يكتم مشايعته لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، بل يفرح بها ويصر على التصريح بأنها خير لبلادنا، وأنه ينبغي علينا نحن العرب أن نعاون على إنشاء هذه الدولة، وأن نعيش معًا في سعادة وأمن ورخاء!
وليأذن لنا سيادته أيضًا أن ننبهه إلى أن هذه الساعة التي جاش فيها العالم الإسلامي والعربي، ليدفع عن فلسطين الجور الذي أرادت هيئة “الأمم المتحدة” التي تصرفها روسيا وأمريكا وبريطانيا، هي ساعة فاصلة في تاريخ العرب والمسلمين ونصارى الشرق جميعًا، وليأذن لنا أن ننبهه أيضًا أن النار المشتعلة الآن تفصح كل الإفصاح عن المعنى الذي ينطوي عليه تقسيم فلسطين، فكيف ذهب عن فطنة سيادته أن يذكر كلمة واحدة صريحة تفصح أيضًا كل الإفصاح عن استنكاره واستنكار طائفته لهذا التقسيم الجائر الذي أرادت أن تفرضه على العرب هيئة الأمم المتحدة؟
وليأذن لنا سيادته أيضا أن ننبهه إلى أن الصهيونية تدعي أنها تتكلم باسم يهود العالم جميعًا، وأن جميع الدلائل إلى اليوم تدل على أن كثرة يهود العالم منضمة إليهم، فما هو الضمان الذي يقدمه لنا سيادته حتى تطمئن قلوبنا إلى أن يهود مصر ليسوا كيهود سائر العالم؟
وليأذن لنا سيادته أيضًا أن ننبهه إلى أن الصهيونية قد أذاعت منذ القديم أنها تريد أن تستولي على أرض «إسرائيل» كلها من الفرات إلى النيل، وأن هذا مطبوع منشور في كتبهم، وأنه حين ذاع نبأ التقسيم وقف مفلوك صهيوني يستنكر التقسيم ثم يرضى به على مضض، لأنه الخطوة الأولى التي تفضي إلى استيلائهم على أرض بني إسرائيل كلها من الفرات إلى النيل، وأنا لا أظن أن مثل هذا مما يغيب عن الرجل الفاضل العالم أحد أعضاء المجمع اللغوي العربي(1).
وليأذن لنا سيادته أن نذكره بوصية الله لنا في محكم تنزيله إذ يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، فالمسلمون والعرب جميعًا سوف يقاتلون من يقاتلهم من الصهيونيين، أما سائر اليهود فلن يعتدى عليهم مسلم ولا عربي ماداموا في ذمتنا ولا يؤلبون علينا. فهل يأذن سيادته بأن يعلم أن المسألة ليست مسألة سياسية نريد أن نقحم الدين فيها، بل هي مصير العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل يأذن لنا أن نسأله أن يدفع عن يهود مصر كل شك وريبة بأن يصدر ييانًا صريحًا عن موقف يهود مصر في مسألة التقسيم؟ وهل يأذن لنا سيادته أن نطالبه ونطالب أبناء ملته من يهود مصر بأن يفعلوا فعلا صريحًا واضحًا يدل على أن عواطفهم هي عواطف الأمة المصرية تشعر بشعورها وتتألم بألمها؟ وهل يأذن لنا سيادته أن نقول له إن هذا الذي يجرى الآن ليس “ظرفًا عصبيًا” كما جاء في كلامه، بل هو أوضح من ذلك، هو حرب بيننا وبين يهود العالم وكل من يناصرهم من الأمم، وأنها حرب سوف تستمر إلى أن يستقر الحق في قراره ولو طالت مئة عام؟ أفليس من الحكمة إذن أن يتخلى الحاخام الأعظم عن العزلة التي يريدها لنفسه ويدخل هو وأبناء طائفته في الجهاد الذي كتب علينا نحن العرب من مسلمين ونصارى ويهود لكي ندفع عن بيت المقدس أدناس الصهيونية؟
هذه كلمة مجاهد عربي يتقدم بها إلى الحاخام الأعظم تعليقًا على حديثه الذي سوف يبقى مذكورًا في تاريخ الإسلام والعرب، لم أعمد فيها إلى شرح أشياء أعرفها حق المعرفة، انتظاراً لما يكون من عمل سيادة الحاخام الأكبر. وليعلم سيادته أن الأحداث أسرع من لمحات البرق في السحاب المتراكب، فليبادر إلى الخير مبادرة من عرف وجه الحق فلم يحجم به عن الجهاد خوف ولا فزع ولا إرهاب. إن عمل الحاخام الأكبر هو “الحد الفاصل” الذي ينتظره اليوم أربعمائة مليون مسلم قد استيقظوا وأدركوا أن يهود العالم قد أعلنوا عليهم الحرب، فلن يخدعهم بعد اليوم شيء عن الطريق الذي سار فيه آباؤهم من قبل، فنصرهم الله وأيدهم وهزم أعداءهم وأعلى كلمتهم وجعلهم خير أمة أخرجت للناس.
_____________________
(1) يشير الأستاذ شاكر -رحمه الله- إلى الحاخام حاييم ناحوم.
المصدر: مجلة الرسالة، العدد (754)، ديسمبر 1947م.