يتمنى كل إنسان أن لو وُلد من جديد نقياً طاهراً رُفعت عن كاهله جميع أوزاره وأكداره، فما الرحلة التي أنعم الله تعالى على أمتنا بها وتتحقق فيها تلكم الولادة المباركة؟ وماذا تنعقد فيها من شعائر تعظَّم، ونُسك تبجَّل، وأركان توقَّر، وأخلاق تتمَّم، لتحصل الولادة؟
إنها زيارة البيت العتيق الذي شرّفه الله تعالى بإضافته إلى نفسه، وجعله مقصداً لعباده، وما حواليه؛ حرماً له وتفخيماً لأمره، يقصده الحجيج من كل فج عميق، متواضعين لرب البيت خاضعين لجلاله، ووظّف عليهم أعمالاً قد لا تهتدي إلى معانيها العقول، ويمثل الامتثال لهذه الأعمال كمال الرق والعبودية، عن ابنِ سيرينَ أنه حجَّ مع أنس بن مالك، قال: وكان يقول في تلبيته: «لبَّيكَ حجاً حقاً، تعبُّداً ورِقاً» (رواه البزار، رواته ثقات)، وتتوج الرحلة بالجائزة العظيمة بالولادة من جديد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن حَجَّ هذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كما ولَدَتْهُ أُمُّهُ» (رواه البخاري).
من قصد البيت الحرام ونظر إليه في الدنيا جدير بأن يُرزق النظر إلى وجه الله الكريم بالجنة
هذه دعوة للتدبر في هذه الرحلة، والتأمل في معاني خطواتها وأركانها، مسترشداً (بتصرف كبير) بكتاب «إحياء علوم الدين» للغزالي.
الشوق:
من قصد بيت الله الحرام ونظر إليه في الدنيا جدير بأن يُرزق النظر إلى وجه الله الكريم في دار القرار في الجنة؛ «والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ» (البخاري).
فالعين القاصرة في دار الدنيا لا تتهيأ لقبول النظر إلى وجه الله الكريم، ولكنها تتمكن في الآخرة؛ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة)، فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء، هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل الذي إلى محبوبه إضافة، والبيت مضاف إلى الله تعالى، فجدير أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة، فضلاً عن نيل الثواب.
العزم وقطع العلائق:
ليعلم الحاج أنه بعزمه ونيته صار قاصداً مفارقة الأهل والوطن، ومهاجراً الشهوات واللذات، متوجهاً إلى زيارة بيت الله، فليعظم في نفسه قدر البيت وقدر رب البيت، وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة، وليتحقق أنه لا يُقبل من قصده وعمله إلا الخالص، فكيف يقصد بيت الله وحرمه، والمقصود غيره؟!
وقطع العلائق معناه رد المظالم والتوبة الخالصة عن المعاصي، فكل مظلمة هي كغريم حاضر متعلق بتلابيبه ينادي عليه إلى أين تتوجه؟ أتقصد بيت ملك الملوك وأنت مضيع أمره، ألا تستحيي أن تُقْدم عليه قدوم العبد العاصي فيردك ولا يقبلك؟ فإن كنت راغباً في قبول زيارتك فاقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك، لتكون متوجهاً إليه بوجه قلبك، كتوجهك إلى بيته بوجه ظاهرك.
الزاد والمركب:
إذا أحس الحاج الحرص على استكثار الزاد ليبقى منه على طول السفر ولا يفسد قبل بلوغ المقصد، فليتذكر أن سفر الآخرة أطول وزاده التقوى، وأن ما عداه مما يظن أنه زاده يتخلف عنه عند الموت، فلا يبقى معه، كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر، فيبقى وقت الحاجة متحيراً محتاجاً، فليحذر أن تكون أعماله التي هي زاده إلى الآخرة لا تصحبه بعد الموت لفسادها بشوائب الرياء وأكدار التقصير.
فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد، وهو الطعام والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد، وهو معرفة الله وتقواه ومحبته.
حين يرتدي الحاج ويتزر بثوبي الإحرام عند الميقات يتذكر أنه سيلقى الله ملفوفاً في الكفن
وليتذكر المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة؛ وهي الجنازة التي يُحمل عليها، فإن أمر الحج من وجهٍ يشبه أمر السفر إلى الآخرة، فكيف يحتاط في أسباب السفر المشكوك فيه، ويهمل أمر السفر المستيقن؟
الإحرام والتلبية من الميقات:
حين يرتدي الحاج ويتزر بثوبي الإحرام عند الميقات، يتذكر أنه سيلقى الله ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله إلا مخالفاً عاداته في الزي والهيئة، فلا يلقى الله بعد الموت إلا في زي مخالف لزي الدنيا.
وفي التلبية إجابة نداء الله، فاخش أن يقال لك: لا لبيك ولا سعديك، فكن بين الرجاء والخوف متردداً، وعلى فضل الله سبحانه وكرمه متكلاً، فإن وقت التلبية هو بداية الجِدّ.
وليتذكر عند رفع الصوت بالتلبية في الميقات إجابته لنداء الله: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (الحج: 27)، ونداء الخلق بنفخ الصور وحشرهم من القبور وازدحامهم في عرصات القيامة مجيبين لنداء الله ومنقسمين إلى مقبولين ومردودين؛ (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) (الإسراء 52) للبعث والنشور تنقادون لأمره.
دخول مكة ووقوع البصر على البيت:
إذا انتهى الحاج إلى حرم الله آمناً، فليرجُ أن يأمن بدخوله من عقاب الله، وليخشَ ألا يكون أهلاً للقرب، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالباً، فالكرم عميم والرب رحيم، وشرف البيت عظيم، وحق الزائر مرعيٌّ، وذمام المستجير اللائذ غير مضيع، ويحضر عظمة البيت في القلب ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه إياه، واذكر انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنة آملين لدخولها كافة، ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين.
الطواف والتعلق بأستار الكعبة:
الطواف صلاة، فأحضر في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة والذكر، ومتشبهاً بالملائكة المقربين الحافّين حول العرش، والطائفين بالبيت المعمور في السماء بإزاء الكعبة.
ولتكن نيتك في الالتصاق بالملتزم بين الحجر الأسود وباب الكعبة، طلب القرب حباً وشوقاً للبيت ولرب البيت، والإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان، كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب إليه، المتضرع إليه في عفوه عنه، المظهر له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه، ولا مفزع له إلا كرمه.
حين ترى ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات فاذكر عرصات يوم القيامة حين يموج الناس
السعي بين الصفا والمروة:
يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جيئة وذهاباً مرة بعد أخرى إظهاراً للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة، كالذي دخل على الملك وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك فيه، فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى.
الوقوف بعرفة:
حين ترى ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات باختلاف اللغات، فاذكر عرصات القيامة حين يموج الناس، وتأتي كل أمة نبيها وتطمع في شفاعته، واذكر حيرتهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول.
ولا ينفك الموقف بعرفة عن وجود الصالحين، فإذا اجتمعت هممهم وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم وارتفعت أيديهم طلباً للرحمة، فلا تظنن أنه يخيب أملهم ويدخر عنهم رحمة تغمرهم، أخرج مسلم، والمنذري، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْداً مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ اشهَدوا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم».
ولأن «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ» (صححه الألباني)، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم كل عشية عرفة في حال من التضرع واللهج بالدعاء، فهذه فرصة للإلحاح، ولا تنس الدعاء للأمة ولغزة.
رمي الجمار:
القصد منه الانقياد للأمر، إظهاراً للرق والعبودية، واقتداءً بالخليل وبرسول الله عليهما الصلاة والسلام، وإغاظة للشيطان الذي لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله، قال ابن عباس: «الشيطان تَرْجمونَ، ومِلَّةَ أبيكم تَتَّبِعونَ» (صحيح الترغيب).
ذبح الهدي:
هو تقرب إلى الله تعالى وإذعان، وارجُ أن يُغفر لك عند أول قطرةٍ تقطر من دم الهدي كل ذنب عملته، أخرج الترمذي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عمِلَ آدمِيٌّ مِن عمَلٍ يومَ النَّحرِ أحبَّ إلى اللهِ مِن إهراقِ الدَّمِ؛ إنَّها لتَأْتي يومَ القيامةِ بقُرونِها وأشعارِها وأظْلافِها، وإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِن اللهِ بمكانٍ قبلَ أنْ يقَعَ مِن الأرضِ، فَطِيبوا بها نفساً».
علامة الولادة:
هي الصفحة الجديدة الناصعة البياض كبراءة المولود تُملأ بالطاعات وصحبة الصالحين، والاتزان بميزان الشرع، والانشراح بالأنس بالله والشوق إلى لقائه، فتظهر على الحُجاج آثار محبة الله وقبوله، فهنيئاً لهم.
________________________
دكتوراة العقيدة وأصول الدين.