ليست المقاطعة الاقتصادية وليدة الواقع المعاصر، بل ظهرت في الأمم والحضارات على مر التاريخ كوسيلة من وسائل الضغط، لمواجهة واقع سياسي أو عسكري أو اجتماعي.
ومثال ذلك؛ في أواخر القرن التاسع عشر، إبان حركة تحرير أيرلندا ضد السيطرة الإنجليزية، امتنع حلف الفلاحين من التعامل مع وكيل أحد اللوردات من الإقطاعيين الإنجليز في أيرلندا، وفي زمن الحرب العالمية الثانية، قاطعت الشعوب الأوروبية المنتجات الألمانية، كما أُعلنت المقاطعة الاقتصادية من قبل الهنود للمنتجات البريطانية المحتلة في عهد غاندي، والأمثلة أكثر من أن يتسع لها المقام(1).
وقد تنتاب كثيراً من القراء الدهشة إذا علموا أن الدول العربية على المستوى الرسمي، قد أعلنت مقاطعة «المنتجات الصهيونية في فلسطين تطبيقاً لقرار مجلس الجامعة العربية رقم (16)، الدورة الثانية في 2/ 2/ 1945م، بغرض إعاقة الصهاينة من تحقيق وطن قومي لهم في فلسطين»(2).
المقاطعة الشعبية على خط المواجهة
لكن نظرًا للضعف الذي توغل في الدول العربية والإسلامية، لم يعد بالإمكان إعلان هذه الدول بشكل رسمي، المقاطعة الاقتصادية للكيان المحتل والدول الداعمة له، لذا برزت المقاطعة الاقتصادية للاحتلال على المستوى الشعبي الجماهيري، وبشكل لافت مؤثر.
قدرت جامعة الدول العربية خسائر الاحتلال بسبب المقاطعة حتى عام 1999م بنحو 90 مليار دولار، وفي عام 2002م بلغت الخسائر التي لحقت بالمنتجات الأمريكية في دول الخليج ومصر في أبريل، 200 مليون دولار بسبب حملات المقاطعة(3).
ومؤخرًا، ومع استمرار العدوان الصهيوني الهمجي على قطاع غزة، هبت الجماهير لتفعيل سلاح المقاطعة الاقتصادية في أقوى صورها، وتم تعميم المقاطعة لتشمل منتجات كل الشركات والدول الداعمة للكيان المحتل، وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي قوائم للمنتجات المراد مقاطعتها حتى كادت أن تصبح ثقافة عامة.
وبلا أدنى شك، كان لتلك المقاطعة أثر كبير على الشركات الداعمة والمؤيدة للاحتلال، وواجهت خسائر حقيقية، بدليل تقديم كثير من هذه الشركات تخفيضات كبيرة جداً بهدف جذب النافرين، وبعضها أصدرت بيانات لنفي دعمها للاحتلال وقدمت تبرعات لصالح غزة إرضاء للمقاطعين.
وحتى لا نطيل الحديث في هذا الجانب، يكفينا العلم بأن شركة «ستاربكس» الأمريكية خسرت أكثر من 12 مليار دولار خلال 20 يوماً فقط من المقاطعة، وما زالت تعاني!
المقاطعة المُهمّشة
المقاطعة تحتاج إلى طول نفس وإلى استمرارية حتى تصل إلى مرحلة التأثير الحقيقي في مسار القضية الفلسطينية، ولكن ما يقرّب الخطوات إلى هذه المرحلة الالتفات إلى نوع آخر من المقاطعة لم يتم تفعيله جيدًا، وهي السياحة في الدول الداعمة للاحتلال.
هناك مليارات ينفقها أثرياء العرب في السياحة بالخارج، فعلى سبيل المثال؛ نشرت «وكالة أنباء الإمارات» (وام) تقريرًا، منذ أيام، نقلت فيه عن المجلس الوطني الألماني للسياحة، أن الزوار القادمين إلى ألمانيا من مجلس التعاون الخليجي أنفقوا 2.1 مليار يورو في عام 2023م(4).
والخبر هنا عن إنفاق السائحين الخليجيين وحدهم، في دولة واحدة وهي ألمانيا.
وقد بلغ إنفاق السعوديين على السياحة خارج المملكة بعد تخفيف ورفع قيود السفر بسبب جائحة كورونا، ما يعادل 13.87 مليار دولار، وفقاً لما نشرته صحيفة «سبق» قبل عامين(5).
ونشر موقع «الإمارات اليوم» تقريراً حول قيمة إنفاق العرب في السياحة الخارجية، وذكر أنها تصل إلى 50 مليار دولار سنوياً، وقد نُفاجأ بأن هذا التقرير قد نشر منذ 7 سنوات(6)، فكيف مع تزايد أعداد السائحين العرب في الخارج!
جهاد القرش
لنا أن نتخيل مدى التأثير الذي يمكن أن تحدثه مقاطعة العرب للسياحة في الدول الداعمة والمؤيدة للاحتلال، ليضاف إلى مقاطعة منتجات وبضائع هذه الدول.
إن حرمان الأعداء من أموالنا رادع قوي، وهو ضرب من ضروب مواجهة الرأسمالية والاستهلاكية والغزو الاقتصادي، وصورة من صور جهاد الدفع عن المسلمين في فلسطين، ولبيان أهمية هذا النوع من الحراك، نورد هنا عبارة للعلامة محب الدين الخطيب رحمه الله في العدد الأخير من جريدة «الفتح»، يقول فيها: «إخراج القرش من ملكية أبناء ملتك إلى ملكية الغربيين له معنى واحد، وهو تمكين الغرب من أن يزيد قوته على حسابنا، وأن يزيد موقفه رسوخاً في أوطاننا عن رضًا منا واختيار»(7).
ويعقب أمير البيان شكيب أرسلان على هذا المعنى ويؤكده مطلِقًا اسم «جهاد القرش» على هذا النوع من النضال، فيقول: «إذا كنت تريد أن تجاهد حقاً، وإذا كنت تريد الاستقلال عن الأوروبي فعلاً، وإذا كنت قد مللت هذه الحياة التي قد صارت كلها ذلاً فطرق الجهاد كثيرة وهي أمامك، وأيسرها «جهاد القرش»، هذا إذا وطنت نفسك عليه، وهو -إذا عمّ- أعظمها تأثيراً وأسماها سلاحاً»(8).
وإن كان كلام الرجلين يدور حول استخدام جهاد القرش من أجل الاستقلال من التبعية، فإنه بلا شك سيكون وسيلة ناجعة على سبيل المقاطعة المؤثرة، التي يمكن لها أن تضغط على الدول لوقف دعمها للكيان الصهيوني.
عندما نحجب هذه المليارات التي تنفق في بلاد عدونا، فإنما نمنعه الأموال التي يقاتلنا بها، وهي مع ذلك تصب في صالح أمتنا، إذا ما استطعنا تشجيع السياحة المحلية والعربية والإسلامية، فبلادنا بها ثروة ضخمة من المعالم الأثرية والمنتجعات والسواحل والطبيعة الخلابة ومواطن السياحة العلاجية.
الأمر يحتاج إلى وعي من أصحاب رؤوس الأموال، وشعور بأمة الجسد الواحد، وبالمسؤولية الملقاة على عاتق كل مسلم وعربي.
وعلى الدعاة والمثقفين وكل المنشغلين بأحداث غزة والقضية الفلسطينية أن يكون لهم دور في هذه التوعية، وتنشيط الفكرة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية والملتقيات الثقافية.
______________________________
(1) انظر: المقاطعة الاقتصادية: حقيقتها وحكمها، خالد بن عبد الله الشمراني، ص23-25.
(2) المقاطعة الاقتصادية: تأصيلها الشرعي- واقعها المأمول، عابد بن عبدالله السعدون، ص29.
(3) المصدر السابق، ص46.
(4) رابط الخبر
(5) رابط الخبر
(6) رابط الخبر
(7) مقال بجريدة «الفتح» بعنوان «موقف المسلمين الحاضر»، محب الدين الخطيب، نقلاً عن: الإسلام والحضارات، شكيب أرسلان، ص27.
(8) الإسلام والحضارات، شكيب أرسلان، ص27.