تعد وسائل الإعلام أحد أبرز وأهم المؤثرات في حياة البشر، وفي الوقت ذاته أحد أخطر التحديات التي تهدد قيم الأسر والمجتمعات، بعدما تعاظم دورها، وصارت بيد كل صغير وكبير، وعبر «ضغطة زر» فقط، يمكن أن تجعل إنساناً على الهواء مباشرة، وعلى تواصل مع الملايين حول العالم.
إزاء هذا التطور الهائل والخطير في آن واحد، تتزايد أهمية كتاب «الإعلام في القرآن الكريم»، الصادر عام 2021م، الذي يعيد تسليط الضوء على آداب التواصل، وأخلاقيات الصحافة، وفق الكتاب والسُّنة، في محاولة أكاديمية رصينة لرؤية مهنة الإعلام من منظور القرآن الكريم.
ويحسب لمؤلف الكتاب الأكاديمي محمود يوسف مصطفى، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، القدرة على الربط بسلاسة بين قواعد القرآن الكريم، ومشاهدات الواقع، والقواعد المعاصرة مهنياً وإعلامياً، ليؤكد أن كتاب الله وضع «ميثاق شرف» للإعلاميين والصحفيين ومستخدمي وسائل التواصل ومواقع الفيديو، قبل أكثر من 14 قرناً من الزمان.
ويعالج الميثاق الرباني ما تضج به وسائل التواصل والإعلام من مقاطع مخلة، وصور مبتذلة، وتسريبات خادشة للحياء، ومكالمات صوتية تكشف خصوصيات الأسر والأفراد، وهي ممارسات غير أخلاقية مما ابتلي به الناس في زماننا، بينما خط القرآن الكريم قواعد وآداباً حاكمة لذلك، فقال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {27} فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {28} لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) (النور).
ويؤكد د. يوسف، في طيات كتابه، أن الإسلام وضع آليات صناعة صورة المسلم لدى الآخرين، واعتبر البيوت محور ارتكاز لحق الخصوصية، وفرض على الناس آداباً لدخول البيوت، وبالتالي ليس من حق وسائل الإعلام انتهاك تلك الخصوصية، وليس من حق مرتادي مواقع التواصل كشف خبايا البيوت، أو إذاعة أسرارها على الملأ.
ويستعرض المؤلف جملة من ضوابط وآداب الإعلام والتواصل في القرآن الكريم، مستشهداً بقوله عز وجل، متحدثاً عن هدهد سليمان: (وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (النمل: 22)، أي أن ناقل الخبر امتلك أدوات التيقن والتأكد منه، وليس مجرد نقل ثرثرة أو تداول شائعة كما يحدث في عصرنا الحالي.
وتتواصل المنظومة الأخلاقية للإعلام في كتاب الله، بوضع ضوابط حازمة، في التعامل مع المضامين الإعلامية، وضرورة تجنب الكلام الذي لا فائدة منه، وتحاشي كل سلوك لا جدوى له، (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (القصص 55)، وقوله (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان: 72).
ويشدد المؤلف على ضرورة تربية الجمهور إعلامياً، وعدم التسرع في إذاعة الأخبار قبل التحقق منها، مستشهداً بقوله عز وجل: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83)، وكذلك التثبت من الأمور والأخبار والشائعات قبل تصديقها وتداولها، في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
وكذلك التهديد الإلهي لمروجي الشائعات، في قوله: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) (الأحزاب: 60).
ويعزز القرآن الكريم من سياج الحماية الإعلامية، فيدعو إلى مقاطعة المضامين التي تشكك في ثوابت الدين، أو تطعن في آيات الله، وقد شاع ذلك في زماننا تحت دعاوى مشبوهة مثل تجديد الخطاب الديني ومراجعة وتنقيح التراث، فقال سبحانه وتعالى: (وإِذا رَأَيْتَ الذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عنهمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيث غَيْره) (الأنعام: 68).
في موازاة التحذير من تلك الظواهر الإعلامية التي تهدد المجتمع المسلم، سطر القرآن جملة من القيم والأخلاقيات التي تضع خارطة طريق للتواصل الطيب والجيد، وتحرم الدعاية الخبيثة، فقال الله عز وجل: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: 53)، وقوله (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5)، وقوله عز وجل: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) (النساء: 148)، وقوله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108).
ويلفت المؤلف إلى خطورة وتداعيات فقدان الدقة والمصداقية، ونشر الشائعات والأكاذيب، والنيل من السمعة والأعراض، وتفشي حب الظهور ونيل الشهرة، وهي أمراض اجتماعية يقول د. يوسف: إنها أصبحت تستغل من بعض الأنظمة في الكثير من دول العالم، بغية إحداث تأثير سلبي، وتشويه المعارضين، مدعومة بآلة إعلامية باتت تستغل بشكل ممنهج لخدمة أغراض دعائية وسياسية.
ويستشهد د. يوسف بقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة)، وقد نزلت الآيتان في الأخنس بن شريق الذي كان يتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام معسول، لكن نفسه تنطوي على إضمار سوء، وهو أمر يسري على منظمات حقوقية مثلاً أو غير ذلك، وقد تقدم برامج تتجاوب مع احتياجات المجتمع، لكن واقع الحال يؤكد أنها تهدف إلى تحقيق أهداف ومآرب أخرى.
الكتاب في مجمله يقدم خارطة طريق للعاملين في الحل الإعلامي، وكذلك لمرتادي مواقع التواصل، أشبه بميثاق شرف أخلاقي وشرعي، كما يدق أجراس الخطر من استغلال التطبيقات الحديثة في الإعلام والتواصل، فيما يغضب الله، وفي تدمير المجتمعات، وبث السموم، وهدم القيم، ونشر الرذيلة والإباحية، وهو ما يجعله جديراً بالقراءة والدراسة.