إذا كان الحج من أفضل الأعمال وطريق إلى مغفرة الذنوب ودخول الجنة، فإن هذا ليس إلا دليلاً على أنه يربي صاحبه على الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالله يعني معرفته والخضوع التام له سبحانه وتعالى، وتظهر هذه التربية في أمور، منها: العبادات التي يقوم بها الحاج، والأخلاقيات التي يلتزم بها، والعادات التي يعيش بها أثناء أداء الفريضة، فكيف تسهم العبادات والأخلاقيات والعادات التي يقوم بها الحاج في بناء الإيمان بالله تعالى؟
أولاً: دور العبادات التي يقوم بها الحاج في بناء الإيمان:
أما العبادات التي يقوم بها الحاج، فإنه يلتزم أداء الشعائر المطلوبة منه دون أن يفرط في واحدة منها، بل إنه يسعى إلى أدائها بالتمام والكمال، وإذا وجد متسعاً من الأحكام حرص على أداء الأكمل والأفضل حتى وإن كان شاقاً عليه، إنه يصلي في المسجد الحرام، ويطوف بالبيت سبعة أشواط، ويسعى بين الصفا والمروة، ويقف بعرفات، ويرمي الجمرات، كل شعيرة في وقتها وفي مكانها، فما هذا الالتزام الكامل إلا تربية دقيقة لتحقيق الإيمان الكامل.
وكذلك يداوم الحاج على ذكر الله تعالى في كل أحواله، فهو يردد دائماً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
إنه مأمور بالذكر في أثناء الفريضة بشكل دائم، قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ {198} ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {199} فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (البقرة)، وقال سبحانه: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) (الحج).
والالتزام بذكر الله تعالى تربية على الإيمان، فدوام الذكر دليل على اطمئنان القلب، والقلب لا يطمئن إلا بالإيمان، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
ثانياً: دور الأخلاقيات التي يلتزم بها الحاج في بناء الإيمان:
إذا كانت العبادات التي يلتزم بها الحاج تقوده نحو الإيمان، فإنه مأمور أيضاً أن يلتزم بالأخلاقيات التي تغرس الإيمان في قلبه، ومن هذه الأخلاق:
1- التخلي عن الأخلاق الخبيثة؛ كالفحش في القول والخبث في الفعل، فإن الله تعالى أمر بذلك في الحج، فقال عز وجل: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة: 197)، وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَجَّ، فلَمْ يَرْفُثْ، وَلم يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدْتُهُ أُمُّهُ».
2- التحلي بالأخلاق الحميدة والتزود منها، فعندما أمر الله بالتخلي عن الأخلاق الذميمة في الحج، ختم الآية بالأمر بالتحلي بالأخلاق الحميدة، فقال: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 197)، ومن هذه الأخلاق الحميدة التي تبني الإيمان الإخلاص لله تعالى، قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: 5)، فالحاج لا يقصد بحجه إلا وجه الله، ولا يفاخر بحجه على الناس، فقد روى ابن ماجه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّ حجةً واحدةً، قال فيها: «اللَّهُمَّ حجَّةً لا رياءَ فيها ولا سُمْعةَ».
ومن أخلاق الحج الصبر، حيث يصبر على أداء المناسك رغم صعوبتها، ويصبر على الناس؛ لأن الزحام الشديد قد يؤدي إلى ضيق الصدر، خاصة مع رغبة كل فرد أن يؤدي المناسك على أفضل الوجوه، ومن أخلاق الحج المساواة بين الناس وعدم التمايز والتفاخر بينهم، فالجميع يلبسون ثوباً غير مخيط، ويطوفون بالبيت العتيق ويلبون بشعار التلبية الموحد بين الجميع، ويقفون بعرفات ويرمون الجمرات ويسعون سبعة أشواط بين الصفا والمروة، لا يتميز أحد عن أحد، ولا يفخر أحد على أحد، إنها صورة رائعة تجسد خلق المساواة بين المؤمنين.
كما يتحلى الحاج بمكارم الأخلاق عامة، وخاصة خلق البر، الذي يعني إطعام الطعام وطيب الكلام، فقد أخرج الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ»، قيلَ: وما بِرُّهُ؟ قالَ: «إطعامُ الطَّعامِ وطيبُ الكلامِ»، ويظل على هذه الأخلاق حتى يقترب من الله عز وجل، ويتحقق بالإيمان الكامل.
ثالثاً: دور العادات التي يلتزم بها الحاج في بناء الإيمان:
إن الإسلام في فريضة الحج لم يترك مجالاً لأي سلوك قد يصدر من المسلم، حتى ما كان يفعله في حياته العادية، بل شرع له نظاماً كاملاً يضبط عاداته اليومية، فقد كان من عاداته أن يجامع زوجته إذا أراد، وكان من عادته أن يصطاد الطير متى استطاع ويأكله، وأن يقطع فروع الشجر إذا أراد، وأن يقتل الحشرات إذا ظهرت أمامه.. إلخ.
إلا أن الإسلام أراد أن يضبط المسلم حتى في عاداته، فمنعه من هذه الأشياء، حتى يتعود على الانضباط بما شرع حتى في أموره العادية، فإذا فعل المسلم ذلك نبت الإيمان في قلبه وترعرع حتى يستوي على سوقه بالمداومة على الاستقامة في حياته كلها، أما منعه من الجماع مع الإحرام، فدليله في قول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)؛ والرفث عند أهل العلم يعني: الجماع، وأما تحريم صيد البر، كالطيور وغيرها، فدليله في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (المائدة: 95)، وقوله عز وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المائدة: 96).
وأما قطع الأشجار ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن البلد الحرام: «فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَن عَرَّفَهَا، ولَا يُخْتَلَى خَلَاهَا»، والمعنى أننا لا نقطع الشجر صغيراً كان أو كبيراً، ولا نزعج الصيد ولا نلتقط شيئاً نجده إلا للتعريف به.
إنها دعوة إلى الانضباط الكامل في أسمى صوره، حتى يتحقق المسلم بالمنهج الرباني في سائر جوانب حياته، فلا يتكلم إلا بما يرضي الله، ولا يفعل إلا ما يرضيه سبحانه وتعالى، فيكون بذلك خاضعاً ومستسلماً له سبحانه وتعالى، وهذه هي درجة الإيمان التي يسعى المسلم من خلال أداء فريضة الحج أن يصل إليها.