الناس ليسوا على درجة واحدة في الفضائل والخصائل؛ فقد يتميز قوم بأمر يقل عند أقوام آخرين، وكذا الحال في الرذائل والمقابح؛ فقد تنتشر عند قوم رذائل يقل نظيرها عند أقوام آخرين.
والوسام الحقيقي والشهادة التي يؤخذ بها هي الشهادة الصادرة من خير البرية ﷺ؛ فهي لا محاباة فيها ولا مجاملة؛ فقد امتدح رسول الله ﷺ أقوامًا من العرب والعجم لخصائل فيهم تميزوا بها عن غيرهم، وانفردوا بها عمن سواهم من الأقوام.
فقد امتدح ﷺ علو الهمة عند الفرس، وتطلعهم إلى المعالي، وبذلهم كل غال ونفيس للوصول إلى الإيمان، وأن العرب إذا ضيعوا أمانة الدين استبدل ربهم تعالى قوماً من العجم بهم؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ تلا هذه الآية: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38)، قالوا: يا رسول الله، مَن هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي، ثم قال: «هذا وقومه، لو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من فارس»(1).
وقد امتدح ﷺ أقوامًا من العرب؛ فقد مدح بني تميم في الحال والاستقبال؛ إذ إن حالهم بعد الإيمان وترك الكفر والعناد المسارعة في الطاعات والقربات والنفقات، أما في المستقبل فإن فيهم الشجاعة والجلد والقوة على مقاومة المسيح الدجال؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلاَثٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ فِيهِمْ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ»، قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا»، وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ: «أَعْتِقِيهَا؛ فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ»(2).
ومدح التكافل الاجتماعي عند الأشعريين، وهم قبيلة تنسب إلى الأشعر بن أدد من اليمن(3)؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»(4)؛ وقد قيل: إن معنى «أرملوا»؛ أي: فني زادهم وأعوزهم الطعام، وهو من الإرمال بكسر الهمزة، وأصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل من القلة(5)، وفي هذا الحديث فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار والمواساة، وفضيلة خلط الأزواد في السفر، وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها في الحضر، ثم يقسم(6).
والغزو والجهاد يحتاجان إلى القوة والتزود بالأزواد، ولكنهم لا يقعدون عن طلب الجهاد والغزو إذا قل زادهم وفنيت أقواتهم، فإنهم يستعينون على بلوغ مرادهم وإكمال طريق جهادهم بالتكافل فيما بينهم، وإخراج كل واحد منهم ما في جعبته، حتى يأتي الله بالفتح من عنده.
وفي الغربة تظهر معادن الرجال، وينكشف ما كان مستورًا من طبائعهم؛ فالغالب فيها هو الجفاء والقسوة والحرص والأنانية، لكن أن يغلب الإيثار الأثرة، والعطاء الشح، والجماعة الوحدة فهذا ما لا يقدر عليها إلا قلائل الرجال.
فالأشعريون قبل أن يكونوا عالة على غيرهم، ويتكففون الناس، ويذهبون إلى المسألة، فإنهم يتكافلون فيما بينهم، ويواسي بعضهم بعضًا، ولا يخون بعضهم بعضًا، ولا يهرب بعضهم من بعض، ولا يستكثر أحدهم ما معه على أخيه، بل إنهم يرون أنهم في مركب واحد، ونجاة الجماعة تكمن في إخلاص الفرد لها.
فتراهم يجمعون ما معهم ولا يتخلَّف أحد عن إحضار ما معه، ثم يقتسمون بالسوية ما معهم، فلا يكون أحد بينهم محرومًا؛ فالقليل خير من الحرمان.
والإنسان قد يصبر على الجوع، لكن الأمر يتفاقم عند وجود الأولاد والذرية؛ فهم لا يصبرون على الجوع، وهذا يزيد من الضغط على الآباء والأمهات؛ فيتحرق كبد الأب من جوع أولاده قبل أن يتحرق كبده على نفسه.
وهؤلاء الأشعريون من غاية إشفاقهم على بنيهم، ومحبتهم لبعضهم بعضاً، يفعلون هذا الأمر من الجمع والتقسيم، وقد مدحهم النبي ﷺ ليجعلهم نموذجًا يحتذى به، وقدوة يَتأسى بهم الناس، ومثالاً يُنسج على منواله.
وهذا الفعل غاية في الكرم والجود وسماحة النفس، مما دعا النبي ﷺ أن يقول: «فهم مني، وأنا منهم»، و«من» هذه تسمى: الاتصالية؛ أي: هم متصلون بي، وأنا متصل بهم؛ أي: هم فعلوا فعلي في هذه المواساة، وأنا أفعل مثل ما يفعلون، وقال النووي: معناه المبالغة في اتحاد طريقهما، واتفاقهما في طاعة الله(7).
وفي كثير من الأحيان نقع في الانفصال بين النص والتنزيل؛ فندعو إلى الصدقة والإنفاق، ويوم الكرب والمجاعة والمسغبة والأزمة يكون لسان حال كل واحد منا نفسي نفسي.
ففي الأزمات تبتلى السرائر، وتظهر مكنونات النفوس، وتنكشف الدعاوى الكاذبة، ولا يتجمل أحد أمام أحد، فيكون الجميع على حقيقتهم؛ فالصادق يظهر صدقه، والكريم يستبين كرمه، والبخيل يزداد شحه وحرصه.
ووجود هذه النماذج المشرقة تدعونا إلى تفقد أحوال بعضنا بعضاً، فنطعم الجائع، ونكسي العاري، ونحمل الكَل، ونكسب المعدوم.
فإن كنا نملك الأموال فنفعل ذلك من فضل أموالنا، أما إذا وقعت الأزمة وذهبت الأموال أو ندرت وقلت الأقوات أو فنيت، فالجود بالموجود، واقتسام اللقمة يمنع النقمة، ويُرضي الرب عزَّ وجل.
____________________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه، ح(7123)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
(2) أخرجه البخاري في العتق، باب: مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقِيقًا فَوَهَبَ وَبَاعَ وَجَامَعَ وَفَدَى وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، ح(2543).
(3) انظر: فيض القدير (3/ 234).
(4) أخرجه البخاري في الشركة، باب: الشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَالنَّهْدِ وَالْعُرُوضِ، ح(2486).
(5) عمدة القاري للعيني (13/ 44).
(6) شرح النووي (16/ 62).
(7) فتح المنعم شرح صحيح مسلم لموسى شاهين لاشين، (9/527).