كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن بداية دخول الإسلام إلى نيجيريا وما حولها، وأثر ممالك غانة ومالي وصنغاي وإمبراطوريتي كانم وبرنو عليها، وفي هذا المقال نستعرض تاريخ داعية الإسلام الأكبر في هذه البقعة العظيمة في أفريقيا الإمام عثمان دان فوديو(1) الذي يمتد أثره حتى وقتنا هذا.
اسمه ونسبه ومولده
هو عثمان بن محمد الملقب بفودُيُ (وتعني الفقيه باللغة الفلانية) بن عثمان بن صالح بن هارون بن محمد غرطو، من أحفاد موسى جُكّل(2)، الفلاني، ويرجع نسبهم إلى عقبة بن نافع في أشهر الأقوال(3)، ولد عام 1169هـ/ 1755م في قرية مارتا على أطراف إقليم غوبر من منطقة صكتو، وتعرف ببلاد الهوسا.
عائلته وأساتذته
على ما يشتهر به الفلانيون من العناية بالدين والتنشئة العلمية حتى إنه لتنتشر فيهم اللغة العربية مثل الفلانية تمامًا؛ فإن أسرة الشيخ عثمان بالخصوص كانت معروفة بالتدين والثقافة، ولذا، فإن أغلب أساتذته من العائلة والأقرباء، كأبيه محمد فودي الذي أخذ عنه أساسيات اللغة العربية والقرآن الكريم؛ تلاوة وتجويدًا وحفظًا، وأمه حواء، وجدته أم أمه رقية، والصحاح الست مع الفقه المالكي عن الحاج محمد بن راج، والفقه من بدور بن الأمين ومحمد ثنبو بن عبدالله، وجميع من سبق ذكرهم من عائلته(4)، وأخذ الإعراب عن الشيخ عبدالرحمن حمدا، والتفسير عن أحمد بن محمد بن هاشم الزنفري(5)، وكثير من العلوم كأصول الفقه والحديث والإسناد عن جبريل بن عمر، وهو الشيخ الذي أثر فيه أيما تأثير فأرجع إليه الفضل فيما ناله حتى قال عن ذلك:
إن قيل فيّ بحسن الظن ما قيل فموجة أنا من أمواج جبريلا(6)
شخصيته
نشأ الشيخ عفيفًا متدينًا، محييًا للسُّنة مميتًا للبدعة، ناشرًا للعلوم، مفسرًا للقرآن سنينًا عديدة، عالمًا بأحكامه وناسخه ومنسوخه، إمامًا في الحديث، عارفًا برجاله وفنونه، معظَّمًا عند الخاصة والعامة، بليغًا حافظًا، وشاعرًا فصيحًا، عليه مدار الفتوى في مكان حله وترحاله، عابدًا ناسكًا، مهتمًا بطهارة الباطن مثل الظاهر، صلبًا في الدين لا تأخذه لومة لائم(7).
وكان أشعريًا متصوفًا(8)، ولكنه لم يكن المتصوف الذي لا يقف على حدود الله ولا يلتزم الكتاب والسُّنة وينفصل عن واقعه والعمل فيه بمقتضاهما؛ بل كان قائمًا بالحق آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر ثم مجاهدًا ثم حاكمًا بالشريعة الإسلامية.
حال بلاده وقت نشأته
كانت بلاد السودان الغربي المشهورة عند العرب ببلاد التكرور تضم 7 أقاليم، هي: زنفر، وكب، وياور، ونفي، ويرب، وبرغ، وغرم، وفي كل منها حاكم، وتحوي عدة بلدان وممالك، وقد فشا فيها البعد عن الإسلام بدرجة بالغة رغم انتسابهم إليه، ففي بلاد بَرْنُو -وهي الواقعة الآن في شمال شرق نيجيريا- كان لسلاطينها وأمرائها مواطن يركبون إليها ويذبحون بها ويرشون بالدماء على أبواب قريتهم، ولهم بيوت معظمة فيها حيات وأشياء يذبحون لها، ويفعلون للبحر كما كان يفعل القبط مع النيل، ويأخذون من الناس أموالًا يسمونها عادة البلد؛ ويزعمون أنهم إن لم يفعلوا ذلك بطلت معايشهم وقلت أرزاقهم وضعفت شوكتهم، وهم متوارثون لكل ذلك كابرًا عن كابر(9).
ومثله في أهير من بلاد غوبر؛ فإنه كلما ظهر فيهم عالم أو ولي ثم توفي أقاموا من ذريته أحدًا مقامه، واقتدوا به كما كانوا يقتدون بسلفه وإن كان جاهلًا أو كافرًا، وكان طائفة منهم لا يتوارثون على مقتضى الكتاب والسُّنة، وإذا قتل منهم قتيل قتلوا به واحدًا من قبيلة القاتل، وكانوا يعزلون سلاطينهم بغير موجب شرعي مما أدى إلى تشرذمهم وضعف دولتهم(10).
ومثله في بلاد يُربى؛ التي انتشرت فيها السرقة والفواحش وبيع العبيد المسلمين إلى نصارى(11)، ومثله في بلاد دور وكاشنة وكنو وغوبر مما كان يصنعه الفلاتة بالخروج إلى الصحراء مجتمعين مصطحبين أولادهم الصغار، فيعقدون السحر على رؤوسهم، ثم يوقدون نارًا عظيمة ويذبحون من البقر ما استطاعوا ويغرسونها حولها، ثم يضربون أولادهم بالعصي ويطوفون حول النار واللحم ويرقصون، ويرددون: نحن وداعة الله، نحن وداعتك أيها النار، وأنت أبونا وأمنا(12)، ومثل ذلك كثير.
مرحلة الدعوة
بدأ الشيخ عثمان مهمة الوعظ نحو عام 1189هـ/ 1775م، وقضى في هذه المرحلة ما يقارب 30 عامًا، وكان خطابه فيها خطابًا عامًا دار أكثره على تعليم فروض الأعيان وما يشكل فهمه في الدين(13)، وكان له هدي متميز فيه كبشاشته وطلاقة وجهه، والصبر على سماع الناس وتحمل ما يؤذيه منهم، مع التحذير من البدع والمخالفات، ولم يستثن أحدًا من ذلك حتى سلاطين بلاد الهوسا، ولما سمعوا به لاشتهار أمره بدأ بمخاطبتهم مباشرةً، فسار بنفسه إلى الملك باوا حاكم مملكة غوبر الذي كان يعيش على أطرافها؛ فبين له صحيح الإسلام وأمره بالعدل في رعيته(14).
وسار إلى البلاد حوله شرقًا وغربًا في نشر الدعوة موليًا الأهمية لتوحيد الله ونبذ الشرك وعوائد الجاهلية التي استقرت في تلك البلاد، فرحل إلى بلاد كبي عام 1194هـ/ 1780م، فتاب منهم الكثير وتركوا عوائدهم الباطلة(15)، ورحل إلى زمفر عام 1198هـ/ 1783م، فأقام فيها مدة إلى أن اطمأن على إسلام أهلها ثم رجع، ورحل إلى بلاد زوم عام 1207هـ/ 1792م مع جماعة من أتباعه، منهم أخيه عبدالله؛ فدعوا أهلها وعلى رأسهم أميرها(16)، وكانت لهذه الرحلات الأثر العظيم في انتشار دعوة الشيخ وكثرة أتباعه، التي دفعت ملك البلاد إلى عداوته إلى حد محاولة اغتياله وقتال أتباعه، مما نقل دعوته إلى مرحلة جديدة أعلن فيها الجهاد، والذي مهد لقيام دولته.
_____________________
(1) دان تعني ابن باللغة الفلانية، واسم أبيه يكتب هكذا أحيانًا ومن غير الواو أحيانًا، وسببه أنه مترجم.
(2) الذين وصلوا نسب ابن فودي من أهل هذه البلاد كثير، منهم الإلوري والوزير جنيد وغيرهما.
(3) ذكر ذلك ابن الشيخ محمد بلّو بن عثمان في إنفاق الميسور بتاريخ بلاد التكرور، ص58.
(4) ذكر ذلك وأكثر أخوه عبدالله بن فودي في كتابه «إيداع النسوخ من أخذت عنهم من الشيوخ»، ص15 و16، وكانوا مهتمين بتدوين ذلك مما يدل على نضوج الحالة العلمية في هذا الوسط.
(5) الإسلام في نيجيريا للإلوري، ص134.
(6) إيداع النسوخ، ص17.
(7) إنفاق الميسور، ص41، وفي الكتاب ترجمة مفصلة عنه.
(8) كعادة من نشؤوا في هذه البيئات في تاريخ الإسلام، لكن لم تثنيهم هذه البدع عن القيام بالحق والجهاد في سبيل الله.
(9) إنفاق الميسور، ص8.
(10) المرجع السابق، ص13.
(11) المرجع السابق، ص17.
(12) المرجع السابق، ص18.
(13) الإسلام والدولة في أفريقيا لبهيجة الشاذلي، ص14.
(14) تزيين الورقات لعبدالله فودي، ص4.
(15) المرجع السابق، ص8.
(16) الدعوة الإسلامية في غرب أفريقيا لحسين عيسى عبدالظاهر، ص274.