تتوالى ذرائع الأنظمة العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، بهدف معرفة الآخر أو معرفة عدونا، والعزف على وتر التواصل الديمغرافي، مغفلين تماماً أن معاناة الفلسطينيين سببها الاحتلال وممارساته الهمجية في الطرد والتهجير والتدمير، الذي لا يمكن أن نجازيه أو ندعمه بإضفاء الشرعية على وجوده، أو الاعتراف به عبر التطبيع، والتعامل معه كأنه صاحب الحق في الأرض، أو المشاركة في أنشطته السياسية والاقتصادية والثقافية، أو التنسيق معه، بل يجب التعامل معه باعتباره كياناً استيطانياً إحلالياً عسكرياً يجب مناهضته، على أساس أنه كيان قائم على أنقاض شعب آخر استولى على أرضه وطرده منها بالقتل والمجازر.
إن هناك مَن يناهض دولة الكيان لأنها تحتل أراضي عربية، وهناك من يناهضها لأنها تمارس العنصرية إزاء العرب الفلسطينيين، وهناك من يناهضها نتيجة سجلها الطويل من الاعتداءات على البلدان العربية، وأسباب أخرى كثيرة، فإذا كفت عن هذا أو خففت منه لا تعود لديه مشكلة معها، لكنّ كل ذلك، على أهميته، ليس سوى عوارض، لا يمكن إغفالها كما لا يمكن إغفال جانب مهم يتمثل في اعتبار دولة الاحتلال الصهيوني كياناً استيطانياً إحلالياً عنصرياً، قائماً على القتل والتدمير والتهجير.
حجج التطبيع
وتتعدد حجج التطبيع عند المطبّعين، ويمكن تقسيمها إلى نوعين؛ صريحٌ وخفي، ومباشر وغير مباشر، فالمطبّعون الصريحون ينادون بضرورة إنشاء علاقات بين الحكومات العربية ودولة الكيان من أجل أهداف إستراتيجية، وأما المستترون فرغم زعمهم معارضة السياسات الصهيونية، فإنهم يرون أن زيارة الأراضي الفلسطينية التي يسكنها صهاينة لا تعتبر عملًا تطبيعيًا، وهذه سياسة خطيرة من شأنها أن تكسر الحاجز النفسي لدى العرب في التعامل مع الأراضي المحتلة في ظل بقاء المحتل، وقد تؤدي لاحقًا إلى تجاوز الحاجز النفسي في التعامل مع المحتل ذاته وإهمال حقوق الشعب الفلسطيني.
وعلى العكس تماماً، فإن مناهضة التطبيع تؤدي الى محاصرة الكيان ومؤسساته ومشاريعه ريثما تكتمل شروط تحرير فلسطين، مع ضرورة العلم بأن العلاقة التطبيعية لا يمكن أن تكون متكافئة، وأنها تتطلب إذعاناً مسبقاً من المطبع؛ أي أن جوهر التطبيع فعلياً هو القبول بعلاقة هيمنة صهيونية لا تقبل فيها وجهة النظر الأخرى، وأما ممارسة التطبيع فتنبثق بالضرورة من قصورٍ في الوعي العام؛ لأن المصلحة العامة للشعب العربي تقتضي مناهضة التطبيع جذرياً، لا ممارسته فعلياً، وهذا يعني أن موجات التطبيع مع الكيان الصهيوني يكتنفها أخطاء كثيرة، تصل لدرجة الإجرام بحق الشعوب عامة، والشعب الفلسطيني خاصة، من حيث المبدأ والتوقيت والأسلوب والثمن وتوهم المصلحة وغيرها.
مواقف مناهضة للتطبيع
من هنا بدأنا نرى العديد من المواقف والمبادئ المناهضة للتطبيع، التي تتبناها اتحادات ونقابات ومؤسسات أكاديمية وثقافية ومهنية وفنية وغيرها في الوطن العربي، التي يجب احترامها وتشجيعها، بغض النظر عن أي اختلافات بين معايير المقاطعة لديها والمعايير التي تتبناها، وآليات التعامل وفقها، وهذا يدعوها لضرورة التواصل بينها وبين اللجنة الوطنية الفلسطينية للمقاطعة (BDS) بمكوناتها لتنسيق المواقف تجاه مقاطعة دولة الكيان ومعايير تطبيقها، وذلك للنجاح الباهر الذي حققته الـ«BDS» في إظهار أخطار التطبيع للرأي العام العالمي، والاستجابة الواسعة التي لاقتها نداءاتها الداعية لمقاطعة دولة الكيان على مستويات عدة أوروبياً.
وتُعزى هذه الإنجازات إلى قدرتها المتزايدة والمتسارعة في الغرب بسبب توفر بيئة ديمقراطية وحاضنة حقيقية لحقوق الإنسان، وبالتالي ازدياد إمكانية مكافحة التغلغل الصهيوني، ومحاسبة الاحتلال وعزله في كثير من المجالات.
وحتى نجرد التطبيع من تأثيره الإستراتيجي، لا بد من توضيح مفهومه الخبيث، وعدم حصره في العلاقة المباشرة المحسوسة مع الكيان الصهيوني، سواء من خلال العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية فقط، بل توسيع مفهومه ليشمل طبقات الوعي ونمط الحياة، وهو ما يتعارض مع مبدأ المقاطعة التي يجب أن يسود بدل التطبيع؛ لأنه من المحزن أن نصل إلى زمن نحتاج فيه الى تعريف التطبيع، وذكر أهدافه، واستحضار تداعياته، كي نقنع الناس بماهيّته، وأبعاده، وأخطاره، ومدى ارتباطه البنيوي بالمشروع الصهيوني لمقاطعته!