بدا واضحاً في أعقاب انهيار الكتلة الشرقية التي كانت تعتنق الشيوعية أن الرأسمالية، ومرادفها السياسي الليبرالية، أحرزت نجاحاً ساحقاً باعتبارها النظام الوحيد الذي يحمل التقدم والرفاه للمجتمعات، ويصون الحريات وحقوق الإنسان، لكن هذا النجاح تقلص سريعاً بفعل عاملين؛ الأول: ظهور عدد من التشكيلات المناهضة للعولمة، وأبرزها المنتدى الاجتماعي العالمي الذي تأسس في يناير 2001م في بورتو أليغري بهدف الرد على منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، والثاني: الانتقادات النظرية التي تعرضت لها الرأسمالية في عدد من الأدبيات الصادرة مؤخراً، حيث تناولت آثارها السلبية على الاقتصاد والسياسة والبيئة، وفي السطور التالية نتناول بعضاً من تداعيات الرأسمالية على الحياة الاجتماعية والإنسانية.
يجمع نقاد الرأسمالية، على اختلافهم، على أنها صارت منذ السبعينيات أشرس من ذي قبل؛ إذ تخلت عما كان يسمى بأخلاقيات السوق، وأطلقت العنان للأقوى لكي يسحق الأضعف، وخفضت الموارد التي كانت مخصصة لبرامج رعاية وحماية الفئات الأكثر ضعفاً فـي المجتمعات، وعمقت الفوارق الاجتماعية بين الأفراد، وذلك من خلال ما أسموه «مبدأ الاستحقاق».
ويتلخص هذا المبدأ في كون الأشخاص الذين يحققون مكاسب أكثر من غيرهم يستحقون ذلك لذكائهم ومهاراتهم وجدارتهم، وهي ميزات شخصية يولدون بها، في مقابل من يوصفون بأنهم فاشلون أو أغبياء أو كسالى، وهي صفات ذاتية؛ وهو ما يعني أن التفاوت الاجتماعي يعد أمراً طبيعياً يحدث نتيجة الفروق الذاتية بين الأفراد وليس وليد سياسات اقتصادية واجتماعية لا تراعي تكافؤ الفرص، وبالتالي لا سبيل إلى تغييره، بل إن ذلك يعد عملاً لا أخلاقياً؛ لأن المستحِق يحصل على ما يستحقه، ومن الظلم حرمانه مما يستحق لكي نعطي بعضه لمن لا حق له(1).
التفاوت الطبقي ليس هو الأثر الوحيد للرأسمالية على الصعيد الاجتماعي، بل إن تعزيز الاستهلاك أو ما يعرف اصطلاحاً باسم «النزعة الاستهلاكية» (Consumerism) هي أبرز سمات الرأسمالية، وتعني أن زيادة استهلاك السلع والخدمات يعد هدفاً مرغوباً فيه دائماً، وأن رفاهية الإنسان وسعادته يعتمدان بشكل أساسي في الحصول على السلع الاستهلاكية والممتلكات المادية، ويدعم الفكر الاقتصادي الحديث هذه الفكرة باعتبار أن الإنفاق هو المحرك الأساسي للاقتصاد وتشجيع المستهلكين على الإنفاق واستهلاك مزيد من السلع والخدمات يعزز النمو الاقتصادي.
ومن أجل تعزيز النزعة الاستهلاكية، اتجهت الرأسمالية نحو خلق حاجات جديدة، فصار لدينا نوعان من الحاجات؛ حاجات طبيعية حيوية لا سبيل للاستغناء عنها مثل الغذاء الضروري والمسكن والدواء وما إلى ذلك، وهذه يتم التوسع فيها بشكل مبالغ فيه بحيث لا يُكتفى فيها بالحد الضروري، وحاجات غير طبيعية اصطنعتها الرأسمالية وأوهمت الناس بضرورة إشباعها مثل منتجات الترفيه من سينما ومسارح ومنتجات التجميل بأنواعها.
وحتى يتحقق ذلك، كان عليهم خلق صناعة الإعلانات التي نهضت بدور إغراء جمهور المستهلكين بمنتجات الاقتصاد الاستهلاكي، وسُخرت لذلك وسائط إعلام متنوعة؛ من صحافة وإذاعة وتلفاز ومواقع إلكترونية، وبفضلها ترسخت نزعة الاستهلاك، ونشأ عليها الاقتصاد الاستهلاكي الذي دمر كل ما له صلة بالمعنويات.
ويركز معظم نقاد الرأسمالية انتقاداتهم على نزعتها الاستهلاكية، مفترضين أنها تفضي إلى خلق مجتمعات مادية تتجاهل القيم وكل ما يمت للمعنويات بصلة من جهة، وتصْرف الإنسان من جهة أخرى عن غايته الوجودية المتمثلة في البحث عن الحقيقة والمعنى وتُحوّله إلى كائن غايته استهلاك المزيد من المنتجات وإشباع رغباته التي لا تتوقف(2).
وبدوره، يفترض د. عبدالوهاب المسيري أن النزعة الاستهلاكية تشترك مع الإمبريالية في الكثير من سماتها وخصائصها، فالاستهلاكية توسعية تسعى إلى تحويل الذات الإنسانية إلى سوق يمكن أن تلقي فيها بالسلع، لكنها تمتاز عن الإمبريالية في كون مجالها الحيوي هو النفس البشرية، بوجدانها وشعورها ونماذجها الإدراكية وتطلعاتها، فبدلاً من القيام بالغزو العسكري المباشر والتدخل المادي عبر إرسال الجيوش لاستعمار الأراضي ونهب الثروات وفتح أسواق جديدة، تقوم أدوات الترويض الجديدة من إعلام وسينما وموضة بغزو الإنسان والهيمنة عليه وجعله كائناً استهلاكياً نهماً.
يفضي توجه أعداد متزايدة من البشر إلى الاستهلاك المفرط إلى بروز ظاهرة اجتماعية أخرى تعرف باسم «التشيؤ» (Reification)، وهو اصطلاح صكه الناقد المجري جورج لوكاش؛ ويعني تحول العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء «علاقات آلية غير شخصية»، ومعاملة الناس باعتبارهم موضعاً للتبادل، وهذا التبادل طبيعي ومفيد لاستمرار الحياة، لكنه يصبح ضاراً حين يغدو هو الوجه الوحيد أو الطاغي في العلاقات بين البشر.
ووفقاً لتعريف المسيري، فإن «التشيؤ» يعني تحول الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حول الأشياء، فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء، والإنسان المتشيئ هو إنسان ذو بُعد واحد قادر على التعامل مع الأشياء لأنها بسيطة وغير مركبة، لكنه يفشل في التعامل مع البشر بسبب تركيبتهم(3).
وبصفة عامة، يفضي «التشيؤ» إلى افتتان متزايد بالسلع أكثر من غيرها، وارتباط سلوك الإنسان بحركة هذه السلع في الأسواق، بحيث يبدو كما لو أنه يعيش في عالم يمكن عرض كل شيء فيه للبيع والشراء، وعندئذ يعتقد الإنسان المتشيئ أن كل شيء يمكن تداوله وله ثمن، بمن في ذلك الإنسان نفسه.
وهكذا تنتقل قيم وعلاقات السوق لتهيمن على سلوكيات الأفراد وعلى العلاقات فيهما بينهم وعلى مجمل التفاعلات الاجتماعية، ويزداد بالتالي ما يمكن بيعه وشراؤه في كثير من المجالات، مثل: الطب والتعليم والفنون والسياسة وغيرها، مهما بدا إخضاعه للتداول في السوق غير أخلاقي.
مثالب «التشيؤ» لا تقتصر على التشوه الذي يحدث في المجتمع وقد تحول إلى مجتمع سوق يعرض معظم ما فيه للبيع والشراء، إذ يمكن أن تؤدي هذه الظاهرة إلى ازدياد الجمود العقلي في أوساط المتشيئين؛ فعندما يتركز اهتمام الشخص المتشيئ في العالم الحسي، ينصرف عن العالم العقلي والروحي، وعندما يفكر تكون الأشياء هي أداة تفكيره، وليست المفاهيم أو القيم المجردة، أو قل: إنه يدركهما كما لو أنهما أشياء حسية، فتصبح جامدة في عقله جمود الأشياء، وغير قابلة للتطوير أو الاستخدام في إنتاج أفكار جديدة، وربما يدفعه هذا إلى الوقوع في فخ التعصب الفكري وربما التطرف(4)، ولذلك يقترح البعض ضرورة تطوير التعليم في المجتمعات الرأسمالية التي تزداد فيها ظاهرة «التشيؤ»؛ للحد من تحول العلاقات بين الأشخاص المتشيئين إلى صراعات حادة عندما يكون المختلف عليه مفاهيم ذات طابع أخلاقي أو ديني.
____________________
(1) وحيد عبد المجيد، مستقبل الرأسمالية العالمية: اتجاهات المراجعة وفرصها، آفاق مستقبلية، العدد 2، يناير 2022م.
(2) عبدالإله بلقزيز، مجتمع الاستهلاك أو رسملة القيم، بدايات: ع32، 2021م.
(3) عبدالوهاب المسيري، التشيؤ وما بعد الحداثة، الكويت: مجلة العربي، ع464.
(4) وحيد عبدالمجيد، الرأسمالية وظاهرة التشيؤ في المجتمعات الحديثة، القاهرة: آفاق اجتماعية، أغسطس 2021م.