انتشرت في العقود الأخيرة ظاهرة «المول» أو «الهايبر» أو ما يعرف بالعربية المركز التجاري؛ كشكل من الأشكال الحديثة للسوق، وتعد هذه الظاهرة أحد تجليات العولمة وتغول الرأسمالية في حياتنا، حيث برز أول مركز تجاري في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر خمسينيات القرن الماضي من تصميم المعماري الشهير فيكتور جروين، ليكون مكاناً مثالياً للتسوق، ومن بعدها انتشرت الفكرة في جميع أنحاء العالم وعلى رأسها بالطبع بلادنا العربية والإسلامية، بل حققت بعض الدول العربية تقدماً عالمياً في مفهوم «المول»، وصارت تنافس به أكبر الدول الغربية، فبحسب المكتب الإعلامي لحكومة دبي فإن «دبي مول» المكان الأكثر زيارة على وجه الأرض بعدد قياسي بلغ 105 ملايين زائر في عام 2023م، متخطياً بذلك الرقم القياسي السابق البالغ 88 مليون زائر في العام السابق؛ أي بزيادة مذهلة تفوق 19%.
وتتسابق دول الخليج في بناء المولات الضخمة بمليارات الدولارات، لمواكبة الإقبال الكبير على سياحة التسوق بمفهومه الجديد، وعلى السلع الفاخرة ومنتجات العلامات التجارية الكبرى، فعلى سبيل المثال؛ أعلنت شركة المراكز العربية، إحدى أكبر الشركات الخليجية المتخصصة في إدارة وتطوير المراكز التجارية، عن ارتفاع عدد المراكز التي ستكون تحت إدارة وتشغيل الشركة إلى 28 مركزاً خلال عام 2024م، بإجمالي مساحة قابلة للتأجير 1.85 مليون متر مربع بنسبة تغير تبلغ 52% مقارنة بعام 2020م.
المولات بشكلها التي تبدو عليه حيث المساحات الشاسعة التي تستوعب آلاف المستهلكين في وقت واحد، والديكورات الخلابة، والأضواء المبهرة، والأرفف التي تضم العديد من السلع الاستهلاكية من مأكولات ومشروبات وأجهزة منزلية وإلكترونية، وهدايا وألعاب وكماليات ومطاعم وخلافه، لم تأخذ من حصة الأسواق والمحلات ذات الطابع الوطني بشكل يؤثر على الاقتصاد المحلي وفقط، بل وصلت تأثيراتها للنواحي الاجتماعية، والثقافية، والصحية من خلال ما تقدمه من طعام غير صحي، بخلاف التأثير المباشر على الهوية.
إفراز ثقافي
يخطئ من يعتقد أن «المول» أو «الهايبر» مجرد مكان للتسوق والتبضع، فهو إفراز ثقافي يحمل مفاهيم وأفكاراً ودلالات عابرة للقارات قادرة على تشكيل بنيتنا المعرفية والثقافية، بل والتأثير القوي في سلوكياتنا.
صحيح أن هذه المولات نجحت في تقديم كافة المنتجات التي يحتاجها المستهلك تحت سقف واحد؛ ما يعني توفير الوقت والجهد، وصحيح أنها بيئة للتسوق المثالي لا سيما في فترات الصيف الشديد، حيث وجود التكييف المركزي الذي حول بقعة من الأرض كانت في الأصل كالجمرة إلى مملكة من البرودة والراحة، لكنها في الأخير وافد غريب على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، مهمته خلق جيل جديد ممسوخ، يعيش بلا هوية، مقلداً دون إعمال عقل، يسهل قيادته إلى مفرمة الرأسمالية دون أدني مقاومة.
كثيراً ما تسمع من مرتادي هذه المولات أنهم دخلوا بغرض شراء بعض المنتجات غير أنهم خرجوا بعربات ممتلئة بالبضائع والسلع الاستهلاكية نتيجة تعرضهم لكمٍّ هائل من المغريات، إما عن طريق الإعلانات، وإما عن طريق المطبوعات الملونة التي تبشر بعروض وتخفيضات هائلة والموضوعة في مدخل المول، وكما ذكرت في مقابل سابق أن هذه الإعلانات التجارية دخلت كل بيت، وصارت هي التي تخلق احتياجاتنا، وترشدنا إلى أمور نعتقد أنها من أولويات الحياة لكنها في الحقيقة غير ذلك تماماً، فهي تقدم نوعاً من الظلال للمشاهدين ولا تقدم الواقع، بينما يظن الإنسان أنه يعيش الواقع، وخطرها يتمثل في أنها عززت الثقافة الاستهلاكية بشكل غير مسبوق.
وليست إعلانات المول وحدها التي تدفع الشخص لشراء ما لا يحتاجه، بل النسخة التي يحاول البعض أن يكون عليها، فالمولات تعكس هوية المتسوق، وتعد في ذات الوقت معياراً لتصنيف الطبقة التي ينتمي إليها، وبعضهم يحشر نفسه حشراً داخل تلك الأسواق الضخمة المليئة بالأسماء العالمية في المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها، ليثبت للآخرين أنه ينتمي لمجتمع المولات لا مجتمع الأسواق الشعبية.
العجيب هنا أن هذه المولات تفتح باباً واسعاً من الأحقاد الطبقية بين أبناء المجتمع الواحد، فهي لا ترفض دخول الفقراء بالطبع، بل تسمح لهم بالتسكع فيها، فيشاهدون حجم الإنفاق الضخم على «الكماليات» لشريحة أخرى من المجتمع ما يعزز فكرة الفروق الاجتماعية الهائلة ومن ثم زيادة الأحقاد ما يفتح الباب لتهديد الأمن الاجتماعي.
الأسواق الشعبية
والأعجب أن هذه المولات الدخيلة على ثقافتنا وهويتنا والمؤثرة سلباً على منظومة القيم التي تحكم سلوكياتنا ساهمت في زيادة الاستهلاك للمنتجات المستوردة؛ ما أثَّر سلباً على الصناعات المحلية والمنتجات الوطنية، حيث انصرف المستهلك عن منتجات بلده إلى ما وفرته هذه المولات.
ولا شك أن هذا التوجه له العديد من المضار الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فبخلاف التأثير الاقتصادي تلاشت البساطة التي كانت تتميز بها أسواقنا الشعبية التي تختلط فيها الروائح، وتتكدس فيها الدكاكين الصغيرة، وتتداخل فيها أصوات البائعين، وتلاشت معها ملامح الهوية، ذلك أن الهوية في الأصل شكل من أشكال الفعل الذي يتطلب من الشخص ممارسة سلوكيات معينة يصنع من خلالها هويته.
إن أهم سلوك ممكن أن يقوم به الشخص هو الانتماء إلى صفة أو رمز تتصف بها الفئة التي يرغب في الانتماء إليها، ولهذا فالعلاقة بين البائع والمستهلك في الأسواق الشعبية علاقة متينة متسقة مع تعزيز الهوية، وذلك من حيث التاريخ، فالأسواق الشعبية لها امتداد تاريخي بعكس المولات حديثة النشأة، والأسواق الشعبية يشعر فيها المستهلك بالدفء والألفة لأنه بين مكونات ومفردات محلية، بعكس المولات التي يختلط فيها البشر وتتنوع فيها الطبقات الاجتماعية، وتتداخل فيها الثقافات، كما أن الأسواق الشعبية تتنوع فيها طرق العرض والبيع، بينما في المولات نمط واحد في مختلف دول العالم.
والأهم من ذلك أن الأسواق الشعبية والمتاجر المحلية تنشأ فيها علاقة مريحة بين البائع والمشتري بعكس العلاقة التي تجمع بين المستهلك والقائم على البيع في المولات التجارية، فهي منتهية بمجرد دفع الحساب، ليس ذلك وحسب، بل هي معاملة تجارية خالية من الروح، تعتمد بالأساس على قدرة الشخص المالية.
ومن زاوية أخرى، تفيد الأسواق التقليدية كثيراً في قضية تنشيط السياحة على اعتبار أنها المكان الأمثل الذي يعكس حياة الشعب ويميزه عن غيره من الشعوب، حيث يعمد السائحون إلى زيارة الأسواق الشعبية في البلدان التي يزورونها وشراء الصناعات اليدوية فضلاً عن التعرف على التراث؛ ما يعني تعزيز رافد مهم من روافد الاقتصاد المحلي، والملاحظ خلال السنوات الأخيرة أن المولات الكبرى باتت هي الوجهة الأولى لكثير من السياح والزائرين على حساب الأسواق الشعبية، في غياب للدور التوعوي لأهمية تعزيز محتويات البيئة المحلية وتصديرها كوجهات سياحية بدلاً من تلك المولات بأفكارها المستوردة التي لا تعكس الهوية الحقيقة للدولة.
إن الحفاظ على الأسواق الشعبية مطلب اقتصادي ملحّ، قبل أن يكون مطلباً تفرضه الحاجة إلى التصدي للعولمة، ومن ثم فواجب الشعوب ألا تنقطع عن زيارة تلك الأسواق باعتبارها جزءاً من تاريخنا وتراثنا، لم تفسدها العولمة أو الرأسمالية، ولا يشعر المتسوق فيها بأنه يعيش في فضاء استهلاكي تجاوز حدود الزمان والمكان حين يجد المعروض متطابقاً في كل المولات من شرق الأرض إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.