عانت البشرية طويلاً من فكرة الرأسمالية التي ارتبطت بمصالح أفراد معدودين على حساب المجتمع الإنساني، ودفعت كافة المجتمعات ثمن الفكر الرأسمالي الذي سيطر وما زال يسيطر على التوجهات العالمية من راحتها ومصالحها العامة والخاصة وسعادتها وأمانها الكثير في ظل سيطرة أعداد محدودة من الأسر تحكم العالم بمنظورها الاقتصادي الخاص، ولم يدفع الكبار فقط ذلك الثمن، وإنما واجهت الطفولة العالمية حالة من الظلم المقنن في مقابل صمت حقوقي وإنساني غريب.
تقارير عالمية تحذر من عمالة الأطفال
وفي تقرير لـ«يونيسف»، في 10 يونيو 2021م؛ أي في فترة نشاط جائحة «كوفيد 19» التي اجتاحت العالم، تحت عنوان «عمالة الأطفال تزداد إلى 160 مليون طفل في أول ارتفاع منذ عقدين»، تقول في بدايته: ارتفع عدد الأطفال العاملين في العالم إلى 160 مليون طفل -بزيادة 8.4 ملايين في السنوات الأربع الماضية- مع وجود ملايين آخرين معرضين لخطر العمل بسبب آثار «كوفيد-19»، بحسب تقرير جديد صادر عن «منظمة العمل الدولية» و«يونيسف»(1).
يحذر تقرير «عمل الأطفال: التقديرات العالمية لعام 2020م والاتجاهات وطريق المستقبل، الذي صدر عشية اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال في 12 يونيو، من أن التقدم نحو إنهاء عمل الأطفال قد توقف لأول مرة منذ 20 عاماً، مما يعاكس الاتجاه السابق الذي سجل انخفاض عدد الأطفال العاملين بمقدار 94 مليون طفل بين عامي 2000 و2016م، ويشير التقرير إلى ارتفاع كبير في عدد الأطفال العاملين ضمن الفئة العمرية 5 – 11 عاماً، الذين يمثلون اليوم أكثر من نصف الرقم العالمي الإجمالي، وارتفع عدد أطفال هذه الفئة ممن يزاولون أعمالاً خطرة؛ أي الأعمال التي يحتمل أن تضر بصحتهم أو سلامتهم أو أخلاقهم، بمقدار 6.5 ملايين منذ عام 2016م ليصل إلى 79 مليوناً.
يقول غاي رايدر(2): «التقديرات الجديدة جرس إنذار، لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي بينما يتعرض جيل جديد من الأطفال للخطر، فالحماية الاجتماعية الشاملة تسمح للأسر بإبقاء أطفالها في المدرسة حتى لو واجهت صعوبات اقتصادية، وزيادة الاستثمار في التنمية الريفية والعمل اللائق في الزراعة أمران جوهريان، نحن في لحظة محورية، والكثير يتوقف على كيفية ردنا، هذا هو الوقت المناسب لتجديد الالتزام والطاقة، من أجل تخطي الأزمة وكسر حلقة الفقر وعمل الأطفال».
دعه يعمل.. دعه يمر
آدم سميث، أبو الرأسمالية في العالم، مؤلف أهم كتاب فيها «ثروة الأمم» الذي نشر عام 1776م وما زالت تعاليمه الاقتصادية تحكم العالم حتى اليوم، صاحب أهم مقولة اقتصادية رأسمالية «دعه يعمل.. دعه يمر»، الذي نادى كذلك بوجوب ترك الاقتصاد لقوى العرض والطلب، وفي التطبيق العملي للفكر الرأسمالي الذي وضعه سميث جعل الإنسان سلعة مثله في ذلك كأي سلعة تباع وتشترى، فقيمة الإنسان بالنسبة لصاحب رأس المال هو ما يمكن أن يبذله أو يعطيه لزيادة رأسماله هو، وقيمة ما يتقاضاه في مقابل هذا العطاء، فصاحب المال يحرص على تقليل النفقات وزيادة الأرباح وذلك عن طريق استعمال عمالة بأقل تكلفة ممكنة في مقابل زيادة ساعات العمل، زيادة الجهد الواقع على العامل.
واستطاعت فكرة الرأسمالية بعد أن انبثقت عنها العلمانية والعولمة أن تسيطر بأموالها على مؤسسات معنية بوضع القوانين وكذلك مؤسسات إعلامية تغير فكر استخدام الأطفال وتوقف القوانين الدولية الحقوقية عند حد الدعاية الفارغة من مضمونها للعالم الرأسمالي، فأصبحنا نجد جيوشاً مرتزقة معظمها من الأطفال، وعمالاً في شركات متعدية الجنسيات تتكسب أرباحاً خيالية عمالتها من الأطفال، وعممت الكسب بكافة الوسائل عالمياً ليخضع العالم أخيراً ويمرر مقولة: «دعه يعمل.. دعه يمر» لصالح ثلة من الأغنياء.
من يلزم الدول بتنفيذ اتفاقيات حقوق الطفل؟
مما سبق يتضح أن القوانين الدولية (الصورية) ليست هي الإشكالية في إهدار حقوق أطفال فقراء العالم، فالمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الطفل متعددة مثل «يونيسف» (UNICEF)، والحركة الدولية للدفاع عن الأطفال، ومنظمة إنقاذ الأطفال (Save the Children)، والمكتب الدولي لحقوق الطفل (IBCR)، ومنظمة «ECPAT» الدولية، ومنظمة «PLAN» الدولية، وكلها منظمات كبيرة ولها صلاحيات تشريعية موسعة في مجال حقوق الأطفال، ولكن يعن لنا سؤال مهم: من يملك إلزام الدول التي وقّعت على المواثيق الدولية لحماية حقوق الطفل بتنفيذ تلك الاتفاقيات في عالم يعج بالحروب التي يقع الطفل ضحيتها الأولى؟ ولنا في حرب «طوفان الأقصى» الأخيرة خير مثال، حيث بلغ عدد شهداء الأطفال في تلك الحرب التي لم تتوقف بعد أكثر من 15 ألف طفل، غير هؤلاء الذين ما زالوا تحت الأنقاض ولم يعرف عددهم بعد، ويمكن القياس على ذلك بتخيل أعداد أطفال سورية، واليمن، نتيجة الحروب فقط، فما قيمة القوانين الدولية في حالة عدم تنفيذها إلا أن تكون مجرد قناع أو تجميل زائف للفكرة الرأسمالية المتغولة التي زادت حياة البؤساء والضعفاء والفقراء بؤساً وبشاعة؟!
فعلى سبيل المثال لا الحصر، أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة في معظم قراراتها المتعلقة بأوضاع حقوق الإنسان في سورية انتهاكات النظام السوري الممنهجة تجاه الأطفال، وأكدت تعرضهم لعمليات اعتقال تعسفي وتعذيب وإخفاء قسري وقتل خارج نطاق القانون، علاوة على عمليات تجنيد الأطفال وشن هجوم على المدارس بالأسلحة الكيميائية، وأشارت في القرار الصادر، في 15 مايو 2013م، في الفقرة الرابعة إلى «أن تنهي فوراً كافة انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان بما في ذلك ما يتعلق بحقوق النساء والفتيات وحمايتهن واتفاقية حقوق الطفل»(3).
وتلك القرارات وغيرها تبين لنا أن القوانين الدولية ليست كافية في ظل سيطرة الفكرة الأساسية التي ما زالت تتلاعب بمستقبل البشرية وليس الأطفال وحدهم، وأن العالم في حاجة لفكرة ثورية تغير النظرة لمصالح العالم من جذورها، فكرة تجعل الإنسان وليس المادة محور الفكر والمصالح والاهتمام، ولن يجد العالم تلك الفكرة حتى ينتبه العالم الإسلامي لعظم الرسالة التي يحملها، ثم يتحرك من أجلها وهي رسالة الإسلام.
________________________
(1) وشخصياً أعتقد أن تلك الأرقام أقل بكثير مما هي عليه حقيقة، إذ إن معظم دول العالم الثالث تخفي الأرقام الحقيقية عن المنظمات الدولية، وقد ذكر أحد التقارير الأخرى لمنظمة العمل الدولية أن العدد اليوم مضاعف، وأن نسبة 80 من هؤلاء الأطفال لا يتقاضون أجورهم، وإنما ذووهم من يحصلون عليها وهم يعملون مقابل الحصول على طعامهم وشرابهم والقليل من احتياجاتهم الخاصة، ويفضل الكثير من أرباب العمل عمالة الأطفال نظراً لقبول ذويهم بالقليل في مقابل أعمال قد تهدد صحتهم أو حياتهم مثل تجارة المخدرات أو الأعمال التي تتطلب قوة خاصة وتدخل في إطار العنف الإنساني.
(2) المدير العام لمنظمة العمل الدولية.
(3) قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (262/ 67).