جون بيركنز يعترف في كتابه «الاغتيال الاقتصادي للأمم» بالممارسات الأمريكية لإغراق الدول النامية في الفشل والانقلابات ثم الرضوخ للإملاءات
بعد الحرب العالمية الثانية ربطت أمريكا منافسيها ألمانيا واليابان بمصالح شركاتها داخل نظام عالمي وفتحت الباب للاستثمار الأمريكي في أوروبا عبر مشروع مارشال
في عام 1971م حين لمح نيكسون بوادر تنافسية أوروبية ويابانية رفع غطاء الذهب للدولار فتسبب في إرباك الاقتصاد العالمي لصالح الصناعات الأمريكية
بعدها تدفقت صادرات أمريكية من السلاح للشرق الأوسط وكان تركيز صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية لإنشاء منظومة لحكم العالم بشكل غير مباشر
طلب من أكثر من 100 دولة من العالم الثالث فتح أسواقها للشركات متعدية الجنسيات مما تسبب بآثار مدمرة على اقتصاديات الدول بأمريكا اللاتينية
في عام 1991 وحده هربت أموال من روسيا بنحو 19 مليار دولار مع ازدياد الفقر والاضطراب الاجتماعي في بقية الدول الـ 100
وقام بيركنز مثل أقرانه بخلق ظروف تؤدي لخضوع الدول النامية لهيمنة النخبة الأمريكية عبر إعداد الدراسات التي بناء عليها توافق المنظمات المالية على تقديم قروض للدول المستهدفة
ولمزيد من إحكام اللعبة يقوم القراصنة بتدبيج أرقام للنمو الاقتصادي لتلك الدول ولكنها لا تعكس سوى صعود نخبة تمثل الأقلية على حساب الأغلبية التي تزداد فقرًا!
تعرض مؤلف الكتاب للتهديد وللرشوة للتوقف عن كتابة اعترافاته ولكنه قرر المواصلة
هل تعرفون ما الواجب الوطني المقدس في أمريكا؟! ليس هناك شيء سوى الاستمرار في تربع قمة الهرم الرأسمالي العالمي أياً كانت الوسيلة.
في أواخر عام 1980م، وعلى متن أحد القوارب الفارهة بجزر فيرجن آيلاند، استيقظ ضمير الخبير والقرصان الاقتصادي الدولي جون بيركنز ليعترف في كتابه «الاغتيال الاقتصادي للأمم» بكل ممارساته شخصيًا وأقرانه من رواد إمبراطورية «الكوربوقراطية»؛ أي حكم منظومة الشركات الكبرى الأمريكية لإغراق الدول النامية في الفشل والانقلابات ثم الرضوخ للإملاءات الأمريكية.
تعرض مؤلف الكتاب للتهديد وللرشوة للتوقف عن كتابة اعترافاته، ولكنه قرر المواصلة، أما لماذا استيقظ ضميره فجأة، فيقول: بعد أحداث 11 سبتمبر والغزو الأمريكي للعراق، وهي أحداث راح ضحيتها آلاف الأبرياء، إضافة لمن يموتون جوعاً في البلدان النامية كل يوم بفضل سياسات بلاده، ومن يشاهد صعودهم من تكتلات احتكارية تحكم أمريكا من عينة أندرسون، وإنرون، وغيرهما، وما رآه وعاينه بنفسه من حوادث ملفقة بحق حكام أمريكا اللاتينية ودول العالم الذين تصدوا لسياسات بلاده.
يضيف أن بلاده قد أنفقت حتى تأليف الكتاب 87 مليار دولار لتقود حرباً في العراق، وكان نصف هذا المبلغ كافياً لتأمين مياه نظيفة وتغذية كافية وخدمات صحية وتعليم أساسي لكثير من البشر على الأرض!
لقد قرر القرصان أن يروي إدراكاً منه أن أي إمبراطورية لا يمكن أن تدوم للأبد طالما قامت على استغلال الآخرين، قرر أن يكتب فربما يخفف وطأة شعوره بالندم كرائد لشركة ماين القائمة على مساعدة القراصنة الجدد في مهامهم التخريبية العالمية!
غسيل الأدمغة
يؤكد بيركنز في اعترافاته أن أمريكا يحكمها في الواقع حزب واحد بجناحين ديمقراطي وجمهوري، وكل منهما يسيطر على مجموعة من قطاعات الأعمال والشركات الكبرى، وهؤلاء هم من تحقق الأحزاب رغباتهم، وقد تحول رجل الشارع لمجرد مستهلك ومتفرج.
جرى ذلك عبر عقود من غسيل الأدمغة للشعب الأمريكي ليصبح مقتنعًا بسياسات بلاده، تحت شعارات محاربة إمبراطوريات الشر، التي تحولت تدريجياً من الشيوعية لخطر الإرهاب، تحت تأثير طاغ من أجهزة الإعلام التي تحكمها الشركات الرأسمالية.
التجارة الحرة
بعد الحرب العالمية الثانية، استطاعت أمريكا عبر سياسة الاحتواء الخارجية، ربط منافسيها ألمانيا واليابان بمصالح شركاتها داخل نظام عالمي، وفتحت الباب للاستثمار الأمريكي في أوروبا عبر مشروع مارشال، ثم قرر نيكسون تغيير قواعد اللعبة في عام 1971م حين لمح بوادر تنافسية أوروبية ويابانية، ورفع غطاء الذهب للدولار فتسبب في إرباك الاقتصاد العالمي لصالح الصناعات الأمريكية، وبارتفاع أسعار النفط عام 1974م لجأت المصارف العالمية المرتبطة بالمصالح الأمريكية لتشجيع اقتراض الدول النامية.
في هذه الآونة تدفقت صادرات أمريكية غير مسبوقة من السلاح للشرق الأوسط، وكان تركيز صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية لإنشاء منظومة لحكم العالم بشكل غير مباشر، عبر النخب وقادة الأعمال، الذين يدافعون فقط عن الليبرالية بالمفهوم الأمريكي، وطلب من أكثر من 100 دولة من العالم الثالث فتح أسواقها للشركات متعدية الجنسيات ومساندة حرية التجارة وهو ما تسبب بآثار مدمرة على اقتصاديات الدول في أمريكا اللاتينية وهروب الأموال من روسيا بنحو 19 مليار دولار في عام 1991م وحده، مع ازدياد الفقر والاضطراب الاجتماعي في كل تلك الدول.
خطة إفشال
قام بيركنز صاحب الاعترافات مثل أقرانه بخلق ظروف تؤدي لخضوع الدول النامية لهيمنة النخبة الأمريكية عبر إعداد الدراسات التي بناء عليها توافق المنظمات المالية على تقديم قروض للدول المستهدفة بغرض تطوير البنية التحتية ومحطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والمدن الصناعية بشرط قيام شركات المقاولات الأمريكية بتنفيذ هذه المشروعات، وبالتالي فإن الأموال لا تغادر أمريكا وإنما تتحول من بنوك واشنطن لحسابات الشركات الأمريكية داخل البلاد.
ولمزيد من إحكام اللعبة، يقوم القراصنة بتدبيج أرقام للنمو الاقتصادي لتلك الدول ولكنها في الواقع لا تعكس سوى صعود نخبة تمثل الأقلية على حساب الأغلبية التي تزداد فقرًا!
في المقابل، يبقى على الدول المتلقية سداد أصل القرض والفوائد، وبعد تعثر تلك البلدان المحتم عن سداد القروض وفوائدها المتراكمة تصبح مضطرة للخضوع لشروط الدائن مثل التصويت على قرارات معينة في الأمم المتحدة أو السيطرة على مواردها أو حتى قبول تواجد عسكري أمريكي فيها!
انقلابات وفوضى مدبرة
لقد دفع بيركنز وزملاؤه دولة الأكوادور لحافة الإفلاس، وارتفاع حد الفقر لنحو 70% من السكان، وبحيث تخصص الأكوادور نحو نصف ميزانيتها لسداد الديون، ثم اضطرت لبيع غاباتها لشركات النفط الأمريكية، كانت أمريكا تعلم بما تحويه تلك الغابات من ثروة نفطية طائلة، وقد استحوذت فعلياً على 75% منه عبر شركاتها، وتوجه ما تبقى لميزانية تضيع معظمها لسداد الديون وفوائدها أيضاً.
ينطبق السيناريو السابق تمامًا على جواتيمالا وبنما اللتين جرى اغتيالهما بالشكل نفسه، وخاصة بعد أن أعلن رئيس جواتيمالا أربنز خطته للإصلاح الزراعي بما يهدد مصالح شركة يونايتد فروت -شركة تعود للقرن التاسع عشر وتهيمن على مزارع أمريكا الوسطى- وبالتالي تم إلصاق تهمة به كونه عميلاً للاتحاد السوفييتي ضد أمريكا، وخططت المخابرات الأمريكية «سي آي إيه» لانقلاب مدبر ضد نظامه المنتخب ديمقراطياً، وتحديداً في عام 1954م، ومجيء دكتاتور يميني هو الكولونيل كارلوس أرماس الذي ألغى فوراً الإصلاح الزراعي والضرائب على الاستثمار الأجنبي وأودع في السجون آلاف المواطنين!
أما في بنما التي حكمت طيلة نصف قرن بواسطة عائلات ثرية ذات صلات قوية بواشنطن، فقد تجرأ رئيسها عمر توريخوس على رفض الهيمنة الأمريكية، فنال مصيره في حادث طائرة عام 1981م، وخلفه رئيس فاسد وهو نورويجا، ولكن الغريب أن أمريكا قد قررت غزو بنما عام 1989م وإحراق أحياء في عاصمتها وقتل الآلاف من الأطفال والمدنيين الأبرياء، واستندت أمريكا لذريعة التهديد الشيوعي لتقضي على تلك الدولة النامية تماماً مثل فيتنام وغيرها!
جرى الأمر نفسه مع فنزويلا رابع مصدّر للبترول في العالم التي أعلن رئيسها هوجو تشافيز السيطرة على البترول في بلاده منذ عام 2002م، وسعت أمريكا لخلق انقلاب مدبر ضده ولكنه عاد بمساندة الجيش الذي سانده، بخلاف مصدق في إيران، ولم تتمكن أمريكا من تكرار سيناريو إيران 1953م في فنزويلا عام 2003م، وجاء غزو العراق لينقذ فنزويلا من غزو أمريكي محدق، حيث لم يكن بإمكان أمريكا فتح جبهة جديدة إلى جانب أفغانستان والعراق!
وبحسب اعترافات بيركنز، فإن العراق ليس فقط هو النفط، وإنما أيضاً المياه والموقع الإستراتيجي والسوق الواسعة للتكنولوجيا الأمريكية، وقد بات واضحاً منذ عام 1989م للنخبة الأمريكية التي ساندت صدام حسين في حربه ضد إيران أنه لن يسير في السيناريو الاقتصادي المرسوم، ومن هنا لفقت أمريكا قضية النووي العراقي لتغزو هذا البلد وتمتص البترول من أرضه وتنشر قواتها في أرجائه وتدمر معالمه وتقتل الآلاف من الأبرياء بلا هوادة وتغرق البلاد في دوامة التطرف لعقود.
لقد تم تغليف خطة النهب الاقتصادي بمفاهيم مثل الحكم الرشيد وتحرير التجارة وحقوق المستهلك، تقود البلدان لخصخصة خدماتها وإلغاء الدعم الذي يحمي الصناعة المحلية، لم تكن قراصنة أمريكا في الواقع تعمل لعودة الدولارات ولا فوائدها، ولكن إخضاع العالم لأوامر قطب الرأسمالية الأمريكي الأوحد، يعترف القرصان مؤلف الكتاب: كنا نطلب رطلًا من لحم المدين مقابل الدين تمامًا كتاجر البندقية!