تثير تجربة «السناتر» في مصر جدلاً واسعاً، وتساؤلات مقلقة حول جدوى العملية التعليمية، بعدما زاد الإقبال عليها خلال السنوات الأخيرة، وأصبحت بديلاً حقيقياً للتعليم النظامي في جميع أنحاء البلاد.
ومصطلح «السناتر» يعني مراكز الدروس الخصوصية، أو قل: «مدارس موازية» لتلقي الدروس التعليمية، مقابل مبالغ مالية، تُدفع بنظام «الحصة»، التي تصل إلى ساعة تقريباً، على أن يتلقى الطالب 8 حصص شهرياً، بواقع حصتين أسبوعياً.
وإضافة إلى ثمن الحصة الذي يتم تحصيله مقدماً، يدفع الطالب رسوم الملازم الدراسية، وقيمة إيجار المقعد المخصص له، فضلاً عن المأكولات والمشروبات (اختيارياً)، ضمن عملية استنزاف مادي للطالب وأسرته، في صورة حديثة للرأسمالية التي ضربت قطاع التعليم في البلاد.
من دور الحضانة الخاصة، إلى التعليم الأساسي الخاص بشقيه الابتدائي والإعدادي، ثم المرحلتين الثانوية والجامعية، صار «المال» هو المتحكم الرئيس في منظومة التعليم المصري، والمعيار الأول المحدد لمدى جودة التعليم، ما يدفع بالفقير إلى دوامة الجهل والأمية.
اللافت أن محاولات تقنين مراكز الدروس الخصوصية لم تفلح في وقف إهدار أكثر من 136 مليار جنيه (نحو 3 مليارات دولار)، هو حجم ما تنفقه الأسر المصرية سنوياً على تعليم «السناتر»، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء؛ ما تسبب في تحويل التعليم إلى سلعة لا يقدر على شرائها إلا من يملك المال.
تفيد بيانات حكومية بأن عدد «السناتر» يصل إلى نحو 100 ألف في محافظات مصر، والرقم قد يكون أكبر من ذلك، بالنظر إلى عدم احتساب المنازل التي تعد مقراً للدروس الخصوصية في الريف المصري، إضافة إلى وجود مراكز غير مرخصة، أو تحمل لافتات أخرى، مثل مراكز التدريب والترجمة وغير ذلك.
ويتراوح الإنفاق الشهري للطالب المصري ما بين 5 إلى 10 آلاف جنيه، وقد يزيد بالنسبة لطلاب الثانوية العامة، ما بين «سناتر» ومراجعات «أون لاين» و«ملازم دراسية» لكل مادة، وكتب خارجية، وغيره.
مباهاة و«بيزنس»!
تطور الأمر بشكل مقلق ومخيف، لتصبح «السناتر»، مجتمعاً طلابياً ثانياً، ومسرحاً لاستعراض الأزياء، وقصات الشعر على الموضة، ووسيلة للتفاخر والمباهاة الاجتماعية بين المراهقين والمراهقات، فهذا يتلقى درساً خصوصياً في «سنتر» كذا، وهذا يتعلم لدى المعلم الأشهر على مواقع التواصل، وثالث على صلة بالمدرس المعروف بقناته على «يوتيوب».
وتبارى المعلمون فيما بينهم، فهذا يصف نفسه بـ«الأسطورة»، وذاك يضفي على نفسه صفة «العبقري»، وثالث يلقب نفسه بـ«إمبراطور الرياضيات»، ورابع يدعي أنه «عملاق اللغة الإنجليزية»، وخامس يرى في نفسه «أفلاطون الفلسفة»، وهكذا حتى تجرد المعلم من قيمته التربوية والعلمية، فصار يروّج نفسه كسلعة، وبضاعة؛ لاستمالة الطلاب إليه، وحجز الدروس في «السنتر» التابع له!
ومن عجب العجاب، صار منهم من يستعين بـ«البودي جارد»، و«السكرتيرات» وغير ذلك من مساعدين! مستخدماً سيارة فارهة؛ لإضفاء هالة حوله، ورفع سعر حصة التدريس إلى 100 جنيه (نحو دولارين) أو 200 جنيه (قرابة 4 دولارات)، تُدفع مقدماً، وبالحجز المسبق، ليكدس مئات، بل وربما آلاف الطلاب في قاعات كبيرة، بينما هو غير مؤهل من الأساس ليكون معلماً وتربوياً.
وقد عايشت شخصياً معاناة بسبب ذلك، فنجلي يستيقظ فجراً، لكي يحجز مقعداً في قاعة كبيرة تضم 500 طالب، حتى ينعم برؤية المعلم وجهاً لوجه، بينما الآخرون سيرونه فقط عبر الشاشات في قاعات أخرى مجهزة لذلك، إلى أن يعود ظهراً، وهو مجهد من الإرهاق، من أجل تحصيل حصة علمية، شهدت تأخيراً من المعلم، وتضييعاً للوقت، وكثيراً من الثرثرة، قليلاً من العلم والتربية.
رقابة غائبة
تتفاقم المشكلة مع غياب الرقابة على هذه «السناتر»، التي تحولت إلى «بيزنس» ضخم يدر الملايين، بصرف النظر عن مدى جودة ما تقدمه من محتوى تعليمي، وانضباط تربوي، وما إذا كان المسؤول عنه حائزاً على الشهادات والمؤهلات المطلوبة لذلك، ومستوفياً لمعايير الجودة المتعارف عليها أم لا.
وإزاء الوجود الفعلي والمكثف لـ«السناتر»، غابت المدرسة كعنصر فاعل ورئيس في عملية التربية، ومنظومة التعليم، وكمنصة للأنشطة المدرسية والطلابية، وكأرض خصبة تروي شخصية التلميذ والطالب بكل ما هو نافع ومفيد، لتصبح المدرسة جدراناً فقط، بعد أن لجأ المعلم ذاته إلى «السناتر» ليكسب لقمة العيش، وبات الطالب يرى في انتمائه للمدرسة مجرد أوراق قيد رسمية فقط، بينما جل وقته بين مراكز ومنصات الدروس الخصوصية.
ومع تراجع نبرة تجريم تلك المراكز، يمكن القول: إنها أصبحت بمثابة «تعليم مواز» له قواعده وأساليبه، وله مُلاكه وشركاته، لا يتحصل عليه إلا من يدفع أولاً، ما يشكل عبئاً على كاهل الأسر الفقيرة، ويخلق تعليماً طبقياً بصورة جديدة، ويصنع جيلاً مشبعاً بقيم المادية والرأسمالية البغيضة.
التعليم بـ«مقابل» جريمة فادحة ترتكب في حق الأبناء، وهي شوكة في ظهر المنظومة التعليمية برمتها، تستلزم وقفة جادة لإعادة المدرسة إلى دورها الحقيقي، وسد النقص في أعداد المعلمين، ورفع رواتبهم، وتطوير المناهج، وإضافة عناصر الجذب للعملية التعليمية والتربوية، والحد من تدخل رأس المال في التعليم، والرقابة على انتظام الطلاب في المدارس، وإعادة الانضباط للدوام المدرسي، وإحياء العملية التعليمية من جديد، لتعود المدرسة في نظر كل طالب منبر تربية، ورافعة وعي، ومنصة معرفة، وليهتف مجدداً: «مدرستي.. مدرستي.. هي بيتي الثاني، فيها أملي وشروق غدي، وفيها دفاتر حلمي الفتان».