حضرت مؤخراً دورة تعليمية وكلي شغف وفضول؛ لأن عنوان الدورة من العناوين الجديدة كلياً على بنيتي المعرفية، لكني انزعجت أكثر مما استفدت؛ ذلك أن المحاضر -بارك الله في علمه وجهده- الذي قرر عرض مادته على برنامج من البرامج الإلكترونية المخصصة للعرض والتواصل لم يكلف نفسه قبل العرض عناء تجربة البرنامج، والتأكد من الصوت وجودته، والعرض ودقته، فضاع وقت طويل في الإصلاح، فسرق الملل الشغف، وتسرب فضول المتعلمين الذين التزموا بالحضور في الساعة المخصصة!
لو تأملت في قصة سيدنا موسى عليه السلام في القرآن الكريم لوجدت أن الله تعالى قد أمر سيدنا موسى أن يلقي عصاه وهو متوجه إلى مصر، قبل أن تنزل عليه الرسالة، فلما ألقاها تحولت إلى ثعبان ضخم، لما رآه سيدنا موسى تملك منه الخوف والرعب فولى هارباً، لكن الله أمره أن يُقبل ولا يخف إذ لا يخاف لديه سبحانه وتعالى المرسلون!
أدرك سيدنا موسى أن العصا معجزة أيده الله بها، ليتحدى بها فرعون وسحرته، وعلم مسبقاً بـ«التجربة» كيف ستتحول، ومن ثم لما ألقاها أمام القوم حين اجتمعوا ضُحى خاف القوم، وولوا هاربين لما تحولت إلى حية ضخمة عدا هو.
تخيل أن الوسيلة (العصا) جربت أول ما جربت أمام السحرة الذين جاؤوا من كل حدب وصوب لملاقاة موسى في ساحة التحدي، ربما كان أول الهاربين سيدنا موسى من هول المنظر، وساعتها ستفشل الرسالة والوسيلة!
أتعجب من المحاضر الذي وضع مادته العلمية على أي واسطة مدمجة، ثم لم يكلف نفسه تجريب جهاز العرض والوسيلة التي تحوي المادة التعليمية أو التدريبية، أو توصيلة الكهرباء وما إلى ذلك من أدوات معينة على الشرح والتوضيح، حتى إذا بدأ العرض وشرع في فتح أدواته وجد أن الصوت لا يعمل، والمادة لا تفتح، والتوصيلات غير مناسبة، فيضيع وقت الجمهور، وتفشل الرسالة، وتظهر العشوائية في أبهى صورة، فلا يتحقق المراد!
يعلمنا القرآن الكريم من خلال قصة سيدنا موسى أن تجربة الوسيلة قبل تشغيلها ضرورة، هذا ويحوي كتاب الله المجيد العديد من الوسائل التعليمية التي يدندن حولها الأكاديميون والمتخصصون في قضايا التدريب والتعليم اليوم، ولعل من أهم هذه الوسائل التي تؤكد المعنى وتقربه لذهن المتلقي ضرب الأمثال كما في قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل: 112)، وبخلاف ضرب الأمثال هناك القصة، والقرآن مليء بقصص الأنبياء والمرسلين، إلى جانب وسيلة أخرى اعتمد عليها القرآن في غالب آياته وهي التأمل في ملكوت الله ومفردات الطبية من جبال وحيوانات وطيور وكواكب.
وفي الوقت الذي تبرز فيه الكتب والمراجع العلمية أهمية الرحلات في اكتساب المعلومة وغرسها نجد أن القرآن الكريم يهتم بهذا النوع من الوسائل والنماذج التعليمية، يبدو ذلك في قوله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).
ليس غريباً أن يرشدنا القرآن إلى مثل هذه الأمور التي يبدو للبعض أنها من بنات أفكار الغرب، فالتأمل يمنحنا القرآن كثيراً من كنوزه، صحيح أن لتلاوة القرآن ثواباً كبيراً، وحسنات عظيمة يجنيها القارئ، ذلك أن كل حرف من حروفه بحسنة والحسنة بعشر، والله يضاعف لمن يشاء.
غير أن القرآن لم ينزل ولم يُحفز على قراءته لجلب الحسنات فقط، فهناك أعمال أخرى تهب لصاحبها حسنات أكثر بكثير إذا كان الأمر مجرد تحصيل أجر؛ فمثلاً ثواب دعاء دخول السوق الذي يقال في أقل من 10 ثوان مليون حسنة، في حين أن مقدار هذا الدعاء من القرآن لا يعطي هذا الثواب!
هل الدعاء أفضل من القرآن، ولهذا كان ثواب الدعاء أكبر من ثواب قراءة القرآن؟
بالطبع لا.. ولكن القرآن لم ينزل للقراءة فقط، بل نزل ليكون هادياً ومنيراً، ومعيناً على حل المشكلات الحياتية قبل الأخروية، ومن نعم الله أن هذا القرآن العظيم لم يأت ليعجز العقل البشري، ويجعله في حيرة دائمة، وقلق متصل، بل جاء لينهض به، حيث أمر أول ما أمر بالقراءة، ثم أمر بالتفكر والتأمل، وجعل تأملك وتفكرك عبادة، وجعل أكثر من ثلثي معجزة الإسلام (القرآن) آيات تحث على التفكر والتدبر!
لا أجمل من حرص الإنسان على التعايش مع آيات الله، يتدبره بعمق، يعمل فيه عقله، ويفتح ذهنه، يفتش عن أسراره، يتأمل قصصه، يبحث عن كنوزه كما هو حرصه على الانتهاء من أكبر عدد من الختمات!