في صباح هادئ بمدينة الكويت، بدا وكأن كل شيء يسير كالمعتاد داخل أروقة وزارة التربية، لكن خلف هذا الهدوء كان يجري تحوّل كبير، الموظفون القدامى، الذين كانوا جزءًا لا يتجزأ من النظام التعليمي لسنوات طويلة، كانوا يستعدون لوداع قريب، كانت موجة التقاعد تزداد وتيرة، ليبلغ عدد المتقاعدين نحو أربعة آلاف موظف، هذا العدد الكبير من المتقاعدين، الذين شملوا معلمين ومديرين وإداريين، لم يكن مجرد رقم، بل كان يعبر عن مرحلة انتقالية تحمل في طياتها قلقًا حول مستقبل التعليم في الكويت.
معظم هؤلاء المتقاعدين وخاصة الإداريين كانوا يتطلعون إلى الاستفادة من التعديلات الجديدة في قوانين الرواتب التقاعدية، كيف يمكنهم تجاهل عرض مغرٍ كهذا؟ بالنسبة للكثير منهم، كان التقاعد بمثابة فرصة لتحسين وضعهم المالي، الراتب الذي لم يكن يكفي لتغطية احتياجاتهم اليومية أصبح فجأة يرتفع تلقائيًا عند التقاعد؛ ما يعني حياة أكثر استقرارًا من الناحية المالية، ومع إضافة الضغط الإضافي الذي جاء مع تطبيق نظام البصمة الجديد، الذي يفرض على الجميع تسجيل حضورهم ومغادرتهم بدقة صارمة، بات قرار التقاعد يبدو أكثر جاذبية.
ومع ذلك، كان هناك شيء أكبر من مجرد المال والبصمة، لأولئك الذين أمضوا عقودًا في الخدمة، كان التعليم حياتهم، وكانوا يعرفون أن مغادرتهم لا تعني فقط نهاية لمسار مهني، بل نهاية لعلاقة عاطفية مع فصول دراسية امتلأت بأصوات الطلاب، ومكاتب إدارية تعج بالتحديات اليومية، البعض منهم وقف أمام المدارس التي خدموا فيها لآخر مرة، يشعرون بفراغ لا يمكن ملؤه بسهولة، كان هذا الوداع مزيجًا من الفرح بالراحة الجديدة والحنين إلى حياة مليئة بالتحديات والشغف.
لكن هذه اللحظة العاطفية التي يعيشها المتقاعدون تترافق مع مخاوف أعمق تتعلق بمستقبل التعليم في الكويت، كيف ستتمكن الوزارة من سد هذا الفراغ الكبير؟ فالتعليم ليس مجرد وظيفة، بل هو خبرات تراكمت على مر السنين، معلمون ومديرون عرفوا طلابهم بأسمائهم واحتياجاتهم، فجأة، يبدو النظام وكأنه يفقد ركائزه الأساسية.
وفي ظل هذه المخاوف، تزداد التكهنات حول مستقبل مكافآت نهاية الخدمة، هناك حديث متزايد عن إمكانية تقليص هذه المكافآت نتيجة الضغوط الاقتصادية التي تواجهها البلاد، الخوف من تقليص هذه المكافآت يعزز القلق لدى أولئك الذين لم يتقاعدوا بعد، هل سيكون التقاعد في المستقبل بمثل هذا السخاء؟ أم أن الأوضاع الاقتصادية ستجعل من التقاعد قرارًا أصعب بكثير مما هو عليه الآن؟ بالنسبة للكثيرين، كانت مكافأة نهاية الخدمة بمثابة شبكة أمان مالية تتيح لهم التقاعد بكرامة، وتقليصها سيكون بمثابة انتزاع هذا الشعور بالأمان.
ولا ننسى قرار الإحالة للوافدين الذي خلق جرحاً غائراً في المنظومة التعليمية كوننا فقدنا كوادر ذات خبرات متميزة من جانب، وسبب فجوة كبيرة في بعض التخصصات التي تعاني ندرة من المعلمين الكويتيين.
ورغم كل هذه المخاوف، هناك فرصة في قلب الأزمة، قد يكون هذا الوقت المناسب لإعادة النظر في نظام التعليم، والاستفادة من هذا التحول لإجراء إصلاحات عميقة، بإمكان الدولة أن تستثمر في برامج تدريبية وتطويرية تضمن أن الجيل الجديد من المعلمين والإداريين يتمتع بالمهارات والكفاءة اللازمة لتعويض الخبرات التي تم فقدانها، قد تكون هذه الأزمة فرصة لبناء جيل جديد من المعلمين الشباب الذين يتمتعون بالشغف والابتكار.
لكن في النهاية، يبقى السؤال: هل ستتمكن الدولة من تجاوز هذه اللحظة الصعبة؟ هل ستكون قادرة على تحويل هذا التحدي إلى فرصة حقيقية لإصلاح التعليم وضمان مستقبله؟ أم أن فقدان هذا العدد الكبير من الكوادر سيترك أثرًا طويل الأمد على جودة التعليم في البلاد؟ الأيام المقبلة ستحمل الإجابة، لكن الواضح الآن هو أن التعليم في الكويت يعيش لحظة حرجة، وعلى الوزارة أن تكون على قدر المسؤولية في مواجهة هذا التحدي.