كاتب المدونة: أحمد بيومي
يتساءل البعض ما وجه كثرة مناشدة المجاهدين في غزة تحرك العلماء؟ وكان آخر ذلك خطابُ أبي عبيدة العلماءَ، في ذكرى «طوفان الأقصى»، تجاوز حالة التضامن اللفظي والقلبي الخجول، فما المطلوب منهم والكل يُبصر عصا القمع التي تلوح لكل متكلم بالحق مخالفًا توجه السلطان، وما زال يرزح في الأسر علماءٌ صدعوا بالحق يومًا فكانت السجون مأواهم إلى اليوم، فما وجه الحكمة في إضافة غيرهم أرقامًا إلى قوائم المعتقلين والمقموعين؟ فدعوهم وما يُعلّمون الناس الدين وما ينشرونه من خير فهو أفضل من لا شيء، فنقول:
أولاً: هذا مقتضى العهد والميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم أن يقوموا بحقه فيبيننه للناس ولا يكتمونه، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل، نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا من سلامة الدنيا وزينتها، فقال: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ) (آل عمران: 187)(1).
وقال محذرًا كل ساكت كاتم للعلم في صدره حَالَما يفتقر الخلق إلى بيان حكم الله في المشاركة في القتل والخذلان -كما كتم أحبار بني إسرائيل حكم الزناة بين يدي رسول الله- مقابل ثمن من معاش الدنيا وزينتها: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ) (البقرة: 159)، وقال أيضًاً: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 174)، وقد حمّلهم الله أمانة القيام بحق ما حملوه من العلم -أدركوا أثر ذلك أو لم يدركوه- فقال: (وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنا قَلِيلاۚ) (المائدة: 44).
ثانيًا: هذا مقتضى الواقع الذي والى فيه الأمراء الأعداء، واصطفوا سواء لقتال الطائفة المجاهدة، في ظرف عزّ نظيره في تاريخ أمة الإسلام، فمن أولى بالتقدم من ورثة الأنبياء؟ أوليسوا ورثة نبي هذه الأمة ﷺ الذي قال فيه علي رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله ﷺ فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه(2)، وهو القائل ﷺ: «وإنما الإمام جنة يُقاتَل من ورائه، ويُتّقَى به»(3).
فإذا غاب ذلك الزمان الذي جمع فيه الإمام الكتاب والسلطان، كما روي من طريق معاذ بن جبل: «ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب»(4)، وقد أوجب علينا الشارع الجهاد مع كل إمام، كما روي من طريق أبي هريرة: «وجاهدوا مع كل بر وفاجر»(5)، وصرنا في زمان يُحّرم فيه ذكر الجهاد وينكل بكل مناد، فمن أولى بالتقدم واقتحام ذلك من حملة الكتاب؟!
والله جعل لهم الطاعة في المعروف -بعد الله ورسوله- في رقاب العباد فقال: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ) (النساء: 59)، فأولوا الأمر كما ذكر جمهور المفسرين هم الأمراء والولاة أو أولوا العلم والفقه(6)، وكما قال الجويني: فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد(7).
ثالثًا: هذا مقتضى التكليف الذي لم يفرّق في جهاد الدفع بين عالم وجاهل، فأصحاب العمائم مخاطبون بالخروج كأحاد المكلفين، بل هم أولى، فما فضل العلم الذي حملوه زيادة عن العوام إن لم يحملهم على المسارعة والإقدام؟! فإن كانوا في القعود سواء فما أشبههم بأحبار بني إسرائيل الذين قال ربنا فيهم: (مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ) (الجمعة: 5)، قال سفيان بن عيينة: كانوا يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، فمن عرف الحق ولم يعمل به أشبه اليهود الذين قال الله فيهم: (أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ) (البقرة: 44)(8).
ثم دعونا نفتش في تلك الأسماء الثلاثة التي ذكرها أبو عبيدة في خطابه الأخير لنرى كيف تمثلت تلك المقتضيات الثلاثة:
1- فأحمد بن حنبل: الإمام الذي تمثل مقتضى العهد والميثاق، فدفع ضريبة ذلك من عُمرٍ قضاه بالسجن، ومن أذى في البدن، لما حاد المأمون عن طريقة أهل السُّنة وفرض على الناس طريقة أعجمية في الاعتقاد، فامتنع رحمه الله عن الإجابة وحبس نحوا من ثلاثين شهرًا، حتى عرض على المحنة عام 221هـ في حضرة المعتصم ثلاثة أيام، وهو يقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سُنة رسوله حتى أقول به، فيقول ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ فيقول: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟!
وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول: يا أحمد، أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي، فيقول: يا أمير المؤمنين، يأتوني بآية من كتاب الله أو سُنة عن رسول الله ﷺ حتى أجيبهم إليها، فقال نائب بغداد: يا أمير المؤمنين، ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمي واشتد غضبه، فأُخذَ أحمد وسُحب وضرب نيفا وثلاثين سوطاً وقيل: ثمانين سوطاً، والمعتصم قائم على رأسه، والبطانة يقولون: ويحك، الخليفة على رأسك، فلم يقبل، ويعيدون الضرب حتى أغمي عليه فأمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله(9).
وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة: أحمد بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمد بن نوح بن ميمون الجنديسابوري مات في الطريق، ونعيم بن حماد الخزاعي مات في السجن، وأبو يعقوب البويطي مات في سجن الواثق وكان مثقلاً بالحديد، والخامس أحمد بن نصر الخزاعي الذي خرج على الواثق وقتل بين يديه(10).
2- سلطان العلماء عز الدين بن عبدالسلام: الذي قام بمقتضى الميثاق، ومقتضى الواقع الذي خان فيه صاحب دمشق الصالح إسماعيل، وسلم حصن شقيف أرنون وصفد لصاحب صيدا الفرنجي عام 638هـ، فاشتد إنكار العز عليه وكان خطيب البلد، فنال منه وترك الدعاء له، وكذلك الشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية، ودفعا ضريبة ذلك عزلًا واعتقالًا، ثم أطلقهما وألزمهما منازلهما، ثم خرج الشيخان مهاجرين من دمشق، فقصد أبو عمرو الكرك، ودخل الشيخ عز الدين الديار المصرية(11).
3- وأما شيخ الإسلام ابن تيمية، فقام بمقتضى الميثاق والواقع والتكليف الشرعي لما تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام عام 699هـ، وقد انكسر جيش المسلمين بوادي الخزندار، وولى السلطان هارباً، ورجعت العساكر على أعقابها للديار المصرية، وهرب جماعة من أعيان دمشق وغيرهم إلى مصر، وبقي البلد شاغرًا ليس فيهم حاكم سوى نائب القلعة.
فاجتمع أعيان البلد ابن تيمية واتفقوا على المسير إلى قازان لأخذ الأمان منه لأهل دمشق، وكلمه الشيخ تقي الدين كلامًا قويًا شديدًا وقال لترجمانه قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون وقاضٍ وإمام وشيخ على ما بلغنا فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين وما غزوا بلاد الإسلام، بل عاهدوا قومنا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت، وجرت له مع قازان وقطلو شاه وبولاي أمور ونوب، قام ابن تيمية فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله عز وجل معرضًا نفسه للقتل.
ثم إن قازان طلب منه الدعاء فقال في دعائه: اللهم إن كان هذا عبدك محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا وليكون الدين كله لك فانصره وأيده وملكه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياء وسمعة وطلباً للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الإسلام وأهله فاخذله وزلزله ودمره واقطع دابره، قال وقازان يؤمن على دعائه، ويرفع يديه، قال الراوي: فجعلنا نجمع ثيابنا خوفاً من أن تتلوث بدمه إذا أمر بقتله(12).
وغيرهم كثير من أئمة الإسلام الذين حملوا العلم بحقه وقاموا بمقتضيات ذلك العلم وواجباته، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، لم ينتظروا حاضنة تؤويهم ولا جمعًا يتحركون في ظلاله، بل أقدموا وحدهم مُرخِصين أنفسهم الله، وبذلوا في ذلك من أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فكيف وقد اجتمعت -في هذا الوقت العصيب- مع المقتضيات الشرعية مقتضى العروبة، بل مقتضى المروءة، بل مقتضى الإنسانية، فما تجاوز أحد سقف الإدانات اللفظية والحوارات البينية! بل ارتد الجميع –إلا من رحم الله- بعد الفورة الأولى إلى سابق دروسهم وبرامجهم العلمية، وتموضع كل منهم في مساحة آمنة يُحدّث الناس عن الرقائق والآداب أو الوعي وإدراك الواقع، نابذين الحديث عن فريضة الوقت وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أو كأنهم غير مخاطبين! وعلى أميال منهم تدور رحى معركة حامية الوطيس على آخر معاقل الجهاد في الأمة! ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
____________________________
(1) انظر: تفسير الطبري للآية.
(2) انظر: مسند أحمد (1347).
(3) انظر: صحيح البخاري (2957).
(4) انظر: المعجم الكبير للطبراني (172).
(5) انظر: سنن الدارقطني (1768).
(6) انظر: تفسير الطبري للآية.
(7) انظر: غياث الأمم في التياث الظلم للجويني، ص391.
(8) انظر: مجموع الفتاوى (1/ 197).
(9) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، (11/ 243)، وانظر: تاريخ الإسلام للذهبي (5/ 254)، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير (10/ 333).
(10) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (10/ 332-335).
(11) انظر: البداية والنهاية (13/ 155)، وانظر: تاريخ الإسلام (14/ 934).
(12) انظر: البداية والنهاية (14/ 89)، وانظر: تاريخ الذهبي (15/ 702).