لا شك أن قرار وزارة التربية بفصل جهاز تفتيش التربية الدينية وجهاز تدريسه عن جهاز اللغة العربية وتسمية المادة بالتربية الإسلامية كان قرارًا صائبًا وحكيمًا وفي مصلحة تربية النشء تربية إسلامية تدفع بالجيل إلى حب العمل وإيثار مصلحة الأمة وتقدير الرجولة والشهامة والمروءة والتحلي بكل الأخلاق الفاضلة، لكن هذا القرار لا بد أن يدعم بالتنفيذ العملي والمراقبة الدقيقة وتهيئة الظرف المناسب والإمكانات اللازمة لتحقيق الغرض المنشود منه.
إن الحديث في هذا الموضوع لا بُد أن يشمل دراسة ثلاثة جوانب أساسية فيه هي المنهج الذي يدرسه الطالب في مادة التربية الإسلامية من حيث النوع والكم والكيف، ثم الأداة المنفذة لهذا المنهج وهي المدرّس من حيث الكفاءة والقدرة على التدريس ومعها الإيمان الحقيقي والسلوك العملي والحماس المتعقل بما يُلقى على التلاميذ من دروس دينية، وأخيرًا الجو العام الذي يعيشه المدرس للتربية الإسلامية والطالب المتلقي لدروس هذه المادة.
منهج التربية الإسلامية
جرت العادة في مدارس وزارة التربية أن يُعطَى للتلاميذ في المدارس بضع آيات مختارة من القرآن الكريم، جزء منها للحفظ وآخر للدراسة، كما ويعطى لهم عدد من الأحاديث الشريفة بالكيفية نفسها، ثم يدرس التلاميذ شيئًا من العبادات وبعض الأمور في العقيدة ونتفا من التهذيب وشيئًا من السيرة.
هذا هو ما يدرسه التلميذ حتى نهاية المرحلة الثانوية في عدد من الحصص لا يقل عن اثنتين ولا يزيد على ثلاثة في الأسبوع الواحد.
فإذا عقدنا مقارنة موضوعية بين هذا وبين ما كان يدرسه التلاميذ في العصور الإسلامية المختلفة لوجدنا كثيرًا من الاختلاف في الكَم والكيف..
فبينما كنا نجد تلاوة القرآن يُعتنى بها حفظًا وتجويدًا مع الصبي منذ نعومة أظفاره نجد الآن تلميذًا ناضجًا واعيًا كل الوعي لا يكاد يجيد قراءة آية واحدة من القرآن قراءة سليمة صحيحة، ولا يكاد يحفظ من القرآن إلا ما يؤدي به امتحانه وبطريقة مليئة بالأخطاء المختلفة.
فلماذا لا نبدأ مع أبنائنا حفظ القرآن الكريم من السور الصغيرة فنحفظه جزء «عم» في الصف الأول، والجزء الذي يليه في الصف الثاني وهكذا حتى إذا اشتد عوده، ضاعفنا له الأجزاء حتى يتخرّج من المدرسة الثانوية وقد حفظ القرآن كله، فیغتني دينًا ويغتني لغةً.
لماذا لا ندرس مع تلاميذنا بعض كتب السنة الصحيحة حتى نصل التلاميذ مباشرة بمصادر تشريعهم فنقرأ لهم من البخاري أو مسلم ونكل الشرح والتفسير والاستنباط لهم، ولأساتذتهم فتبرز شخصياتهم وتتحقق ذاتياتهم ولا تنحصر وتتحجر في الكتب المدرسية المقررة.
لماذا نبتعد بتلاميذنا عن أمهات كتب التفسير وكتب الحديث؟ ألا يجدر بنا أن نأخذ بأيديهم إلى هذه الكتب فينهلون منها ويألفونها ولا ينقطعون عنها بانتهاء دراستهم؟! لماذا لا تكون العبادات في المنهج عملية دائمة؟ ولماذا لا يتعلّم التلميذ كيف يصلي في مسجد المدرسة وكيف يتعرف على أحكام الصلاة، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يصلي، وكيف تستنبط أحكام الصلاة وغيرها من العبادات من القرآن والسنة؟
أما السيرة: فكتب السيرة القديم منها والحديث أفضل من اقتطاف نتف من السيرة واختصارها وتعويد التلاميذ على الاطلاع على هذه الكتب والاقتراب منها يجعلهم دائمًا على صلة بمنابع هذا الدين وأصوله.
أما التهذيب والسلوك المسلم فهو النتيجة العملية لهذه الأمور كلها ولا يكون إلا بالمشاركة العملية والانسجام التام بين المعلم وتلاميذه، وبين الأقوال والأفعال وبين ما يعلمون ويعملون.
كيف نحقق المستحيل؟
ونتساءل الآن: هل تحقيق كل هذه الأمور مستحيل؟ إن الإجابة بنعم تعني أن وضع التعليم في مدارسنا على أكمل وجه ممكن وأن توزيع الحصص على أيام الأسبوع يسير وِفق تنظيم مثالي، وليس هناك مجال لإعطاء الدين أكثر من حصتين أو ثلاثة في الأسبوع الواحد.
فإذا رجعنا إلى الوراء وبحثنا في تاريخ التعليم ومن وضع أسس برامجه وقواعد تنظيمه نجد أننا لم يكن لنا فيه يد ولم نشارك في تخطيطه ولا تقريره، بل وضعه أناس بعيدون كل البعد عن الإسلام، بل وعن كل دين غيره وبعيدون كل البعد حتى عن العرب وتقاليدهم، فدنلوب الإنجليزي الذي قعَّد لأسس التعليم في مصر لم يكن مسلمًا ولا عربيًا، بل كان مستعمِرًا له أغراضه ومخططاته البعيدة.
ألا يجدر بنا إن كنا نسعى إلى تربية أبنائنا تربية مستقلة عن كل تبعية مرتبطة برب الناس أن نُعيد النظر في مناهجنا ونخططها تخطيطًا جديدًا نجعل فيه للتربية الدينية نصيبها الأوفى وحظها الذي تستحق ونزيد لها عدد الحصص في الأسبوع بحيث تستوعب هذا المنهج وتخدم هذا الدين.
الإنسان الصالح لا المواطن الصالح
هذا ما يُقال في المنهج نفسه، أما ما يُقال في التوجيهات التي تُعطى لمدرس الدين فأشياء كثيرة، إذ إن هذه التوجيهات يجب أن تنبع من كون هذا الدين شريعة سماوية منزلة من عند رب الناس غير قابلة للتغيير أو التطوير أو مسايرة الزمن ورغبات الناس قرب الناس أدرى بأحوالهم في أزماتهم المختلفة، وقد وضع لهم أسسًا لا يمكن تغييرها وترك لهم أمورًا اجتهادية لا يخرجون فيها عن حدود ما أنزل الله ولا يخالفون فيها نصًا من نصوص القرآن والحديث، فلا يجوز أن يُقال في التوجيهات خلاف ذلك.
كما أن الغرض من تدريس الدين ليس تكوين المواطن الصالح كما يدعي، ولكنه تكوين الإنسان الصالح كما يجب، فالإنسان المسلم لا يرتبط في دعوته وخيره بموطن من الأوطان أو بقوم من الأقوام، بل يتصل بالإنسان في أي مكان وفي أي وطن ويعتبر الإسلام آصرة تجمع بينه وبين كل مسلم في كل مكان.
هذه بعض نظرات في منهج التربية الإسلامية نطرحها أمام القراء ليروا رأيهم فيها ويكتبوا إلينا ما يرونه لعلنا نصل إلى منهج أمثل وطريقة أفضل تقتنع بهما وزارة التربية وتقوم بتنفيذه(1).
____________________
(1) منشور في العدد (33)، 27 شعبان 1390هـ/ 27 أكتوبر 1970م.