تعد المحكمة الجنائية الدولية إحدى المؤسسات القضائية الدولية التي تهدف إلى محاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة جماعية، وقد أثارت قضية فلسطين بصفتها دولة تقع تحت الاحتلال الصهيوني ثم بعد قبولها والاعتراف بها من قبل المحكمة كدولة عضو في العام 2015م، اهتمام المحكمة الجنائية الدولية بشكل خاص، وهو ما أتاح لها رفع القضايا أمام المحكمة في حال حدوث جرائم دولية على أراضيها حيث كانت هناك عدة قرارات وتطورات تتعلق بهذه القضية.
القرارات التي اتخذتها المحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم الصهيونية في فلسطين:
1- في 9 يوليو 2004م، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيًا استشاريًا في قضية الجدار العازل الصهيوني الذي يُبنى في الضفة الغربية، واعتبرت المحكمة أن بناء هذا الجدار ينتهك حقوق الفلسطينيين في الحرية والحركة، ويشكل انتهاكًا للقانون الدولي، وطالبت دولة الاحتلال بوقف بناء الجدار وهدم الأجزاء التي تم بناؤها بالفعل، وتعويض الفلسطينيين المتضررين، إلا أن هذا القرار لم يُنفذ بسبب اعتراضات دولة الاحتلال والدول الداعمة لها، مثل الولايات المتحدة.
2- في عام 2004م، أيضاً، دعا مجلس الأمن الدولي دولة الاحتلال إلى الامتثال لقرار محكمة العدل الدولية بشأن الجدار العازل، إلا أنها لم تلتزم بهذا القرار أيضًا، ولم يكن هناك تطبيق مباشر للقرار بسبب غياب آلية التنفيذ الفعالة.
3- في عام 2014م، طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة تشكيل لجنة تحقيق دولية بشأن الجرائم التي ارتُكبت خلال العدوان الصهيوني على غزة خلال عملية «الجرف الصامد» الصهيونية العسكرية على غزة، وقد أكدت تقارير اللجنة أن هناك أدلة على ارتكاب جرائم حرب من قبل دولة الاحتلال وجيشها الصهيوني، مثل الهجمات على المدنيين والمستشفيات والبنى التحتية، لكن لم تُتخذ إجراءات قانونية ملموسة ضد القادة الصهاينة في هذا الجانب.
4- في عام 2015م، طلبت دولة فلسطين من المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق رسمي في جرائم الحرب التي ارتكبها دولة الاحتلال خلال الحرب على غزة في عام 2014م (عملية «الجرف الصامد»)، حينها قررت المحكمة الجنائية أن هناك أساسًا قانونيًا لفتح تحقيق رسمي في جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الصهيوني، بما في ذلك جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، إلا أن هذه التحقيقات لم تسفر عن مذكرات اعتقال ضد القادة الصهاينة حتى الآن.
5- في عام 2018م، بعد موجة من التظاهرات على الحدود بين غزة ودولة الاحتلال، تم تشكيل لجنة تحقيق دولية للتحقيق في الانتهاكات التي ارتُكبت خلال هذه الاحتجاجات، وقد أشار تقرير اللجنة إلى أن الجيش الصهيوني استخدم القوة المفرطة ضد المتظاهرين العزل؛ ما شكل انتهاكًا للقانون الدولي، لكن كما هي الحال مع قرارات سابقة، لم تُتخذ أي خطوات قانونية ملموسة ضد القادة الصهاينة في هذا الصدد.
6- في عام 2021م، قرر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة فتح تحقيق رسمي في جرائم حرب محتملة ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 2014م، يشمل الهجمات العسكرية على غزة، وأنشطة الاستيطان في الضفة الغربية.
7- في عام 2021م، أيضاً، قررت المحكمة الجنائية الدولية أن لديها ولاية قضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يعني أن الجرائم المرتكبة هناك يمكن محاكمتها وفقًا لولايتها.
8- في نوفمبر 2024م، أصدرت المحكمة الجنائية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة، تشمل استخدام التجويع كسلاح حرب، والقتل والاضطهاد، وتوجيه هجوم متعمد ضد السكان المدنيين، وفرض القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الغذاء والماء والدواء، التي أدت إلى تجويع السكان المدنيين في غزة وتعريضهم للمعاناة الشديدة.
مدى فاعلية هذه القرارات:
تواجه المحكمة الجنائية الدولية عدة تحديات في تنفيذ قراراتها بشأن فلسطين، وذلك بسبب مجموعة من العوامل:
1- الاعتراضات السياسية: العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية في القضايا المتعلقة بفلسطين، وهذا يعزز من صعوبة تنفيذ قرارات المحكمة، حيث ترفض هذه الدول التعاون مع المحكمة.
2- صعوبة جمع الأدلة والشهادات: التحقيقات في الجرائم الدولية تتطلب جمع أدلة قوية من مكان الحادث، وهو أمر صعب للغاية في المناطق التي تشهد صراعات مستمرة، وهذا يعقد من قدرة المحكمة على جمع الأدلة اللازمة لإدانة المسؤولين.
3- تحديات تنفيذ الأحكام: حتى لو تم محاكمة المجرمين وصدور أحكام ضدهم، تواجه المحكمة صعوبة في تنفيذ هذه الأحكام، خاصة إذا كان المتهمون يعيشون في دول لا تعترف بسلطة المحكمة أو ترفض تسليم المتهمين.
القدرة على تنفيذ القرارات:
على الرغم من القرارات المهمة التي اتخذتها المحكمة الجنائية الدولية بشأن فلسطين، فإن قدرتها على تنفيذ هذه القرارات تظل محدودة بسبب:
1- غياب الدعم السياسي: فالمحكمة الجنائية الدولية تحتاج إلى دعم سياسي من الدول الأعضاء لتنفيذ قراراتها، ولكن بعض الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وحليفتها الصهيونية وعدد من الدول التي تدعمها قد لا تتعاون معها.
2- القيود القانونية: رغم أن المحكمة لديها ولاية قضائية على الأراضي الفلسطينية، فإن تنفيذ القرارات يتطلب تعاون الدول المعنية، ومن بينها دولة الاحتلال التي ترفض الاعتراف بقرارات المحكمة.
3- غياب القوة والإلزامية: فدولة الاحتلال ليست عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية؛ ما يجعلها غير ملزمة بالتعاون مع التحقيقات أو تنفيذ مذكرات الاعتقال الصادرة ضد مواطنيها.
4- الضغط السياسي والدولي: وخاصة من القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة التي تدعم دولة الاحتلال بشكل كبير؛ ما يجعل تنفيذ القرارات أو مذكرات الاعتقال أمراً صعباً.
على الرغم من صدور العديد من القرارات المهمة من المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية المتعلقة بالاحتلال الصهيوني، وانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فإن التنفيذ الفعلي لهذه القرارات والمذكرات يظل محدودًا بسبب غياب تعاون دولة الاحتلال مع هذه الهيئات الدولية، وكذلك التأثيرات السياسية الدولية، وتبقى قدرة هذه المحاكم على تحقيق العدالة محدودة بشكل كبير بسبب القوى السياسية الكبرى، مثل الولايات المتحدة ومن حذا حذوها التي تدعم دولة الاحتلال على حساب القانون الدولي والإنساني مما يجعلها فوق القانون.