أن يصبح الإنسان في عداد المذكورين بعد رحيله ذلك أمر ليس بتلك البساطة التي قد يتخيلها البعض أو يُكتب عنه مقال متواضع
أن يصبح الإنسان في عداد المذكورين بعد رحيله ذلك أمر ليس بتلك البساطة التي قد يتخيلها البعض أو يُكتب عنه مقال متواضع، وتسجيل كل صغيرة أو كبيرة من تفاصيل تلك الحياة.
نعم أن يصبح ذلك الإنسان بعد انقضاء أجله في الدنيا مقيماً في ذاكرة إخوانه ومحبيه في بقاع الأرض تتناول حياته قدوة وعبرة ومثلاً أعلى، فإن ذلك هو الاستمرار بعد الموت والحياة بين الناس، وذلك بما قدم من عمل صالح يقربه إلى ربه؛ ومن ثم إلى الناس الذين هم ليسوا بحاجة إليه.
يأتي هؤلاء الذين أضاؤوا الطريق لمن بعدهم قولاً وعملاً بسلوكهم الأخلاقي؛ فصاروا قدوة حسنة لمن بعدهم، وسكنوا الضمائر لا يبرحونها أحياء ليس في قلوب محبيهم فقط بل أيضاً في تاريخ وطنهم.
هؤلاء حققوا ما استحقوا عليه منا الذكر الطيب؛ فصاروا أنجماً ساطعة لمعوا في سماء وطنهم، بل ولسوف تذكرهم الأجيال، وما بعد الذكر إلا الحمد والثناء والرحمة من الله الرحيم.
عرفته كبيراً من حمله لهموم المحتاجين، لم تفارقه الابتسامة، ولم يهجره التفاؤل أو البشر؛ لأن تفاؤله كان أقوى من همومه فيحلها بفضل الله بحكمة وأناة.
لقد كان يزرع الأمل في قلوب محبيه، ومن يقابلونه ويدفع عنهم الهم إن عاينه في عيونهم أو على محياهم، يكون أحدنا متعباً من هزات الباطل وما أكثرها هذه الأيام، فإذا ما التقى به ورأى البِشر في محياه زال عنه النصب والهم والتعب، وعاد إليه الأمل، وجدد حياته ليبدأ بحيوية جديدة.. هكذا هم الكبار تفتقدهم الأرض وترحب بهم السماء، والله جل وعلا لا ينزع الخير انتزاعاً، ولكن يقبضه بقبض أهل الخير والصلاح والفلاح.
عرفته كريماً يحمل هم أهل الحاجة، وهكذا الكبار الكرام يعيشون كباراً ويموتون بأجسادهم وتبقى أعمالهم شاهدة على جهادهم وصبرهم، يموتون وتظل صحائفهم مفتوحة لما يسطروا فيها من أعمال صالحة وحسنة.
قبل أيام وفي يوم الخميس 17 جمادي الآخرة 1435هـ الموافق 17 أبريل 2014م، رحل ابن من أبناء الكويت بل أعده علماً من أعلامها – دون مبالغة – أخي العزيز والحبيب نادر عبدالعزيز محمد النوري، يرحمه الله، المستشار بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيس مجلس إدارة جمعية الشيخ عبدالله النوري الخيرية.
كم هو جميل أن يصبح الإنسان قدوة ويحيا كذلك، وقد كان هو قدوة وعلماً وأباً لتلاميذه الذين يعملون معه وتحت مسؤوليته في العمل الخيري سواء بالكويت أو بالمكاتب التي تتبعه بالخارج، ولقد ورث علماً لا يجيده سوى أصحاب النيات الصادقة والهمم العالية تجلى ذلك في حديثه عند التسويق، وورث الصدقة الجارية في العديد من المشاريع الطبية والتنموية والتعليمية والاجتماعية والتربوية والدعوية والإغاثية في مشارق الأرض ومغاربها، ونحسب بأن الثلاثية ستكتمل حين يدعون أبناؤه الصالحون من الأيتام وغيرهم من الرجال مصداقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له”، لقد كان ترجمة عملية لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس ادعاء، فهو الذي أسس أكثر من جامعة وعدة مدارس ومعاهد حرفية في مناطق مختلفة في العالم، وأنا شخصياً شاركت بافتتاح بعضها معه ولي الفخر في ذلك.
إن أخلاقيات الإنسان هي التي تهيئ له المدخل لولوج قلوب من حوله من الناس بل وحتى البعيدين منه، وهي علامة على القبول كما جاء في الحديث القدسي الذي يرويه الحبيب صلى الله عليه وسلم: “إذا أحب الله عبداً وضع له القبول في الأرض فينادي منادٍ في السماء: إني أحب فلاناً فأحبوه”. لقد كان الفقيد دمث الخلق متواضعاً لم يزده علمه كبراً أو عزلة عن العامة، لا ينهي حديثاً قبل محدثه، بسط الوجه لا يفرق بين أهل الحاجة من المسلمين أو يأبه بتصنيفات يهتم بها الناس؛ لذا أجمع عليه من احتك به عن قرب أو بعد، وأنا أولهم بعد خبرة امتدت لأربعين عاماً، ليست مجاملة، بل هي شهادة لله، دليلها بأيدينا نحن من تلقينا منه نفائس الخير، وقمنا معه بتنفيذ مشاريع متعددة ونوعية في أصقاع الأرض، لقد رحل الرجل رحيل الكبار، وحق للكويت أن تحزن وترثي ابناً من أبنائها.
وأتشرف أن أقول وأزعم أني كنت قريباً منه القرب اليومي لسنوات عديدة، وبظروف مختلفة، لكني وفي الوقت نفسه تعاملت معه في إطار سمح لي بمعاينة أفضاله، وما كان التكلف عنواناً للقاءات المتكررة وشبه اليومية التي جمعتني به، ولم نسمع قط أنه آذى من حوله ولو بكلمة أو توبيخ، وكان هذا في بداية السبعينيات.
فعندما عقدنا العزم على حفظ القرآن الكريم في مسجد الشويخ في منطقة (ب) مع فيصل التمار، وعبدالله الناجم، وخالد الجيران، يرحمه الله، وكان أكثرنا وأسرعنا حفظاً لكتاب الله بل وحاضر الخاطرة لأي موضوع، وكم قضيت معه أطيب الأوقات في البر والصيد، وكنا نأكل ما نصيد، وما عافت نفسه طعاماً أعددته له قط.
لقد كان يرحمه الله مجيداً محباً لعمله، يعرف ماهية الدور المناط به كمدير للموقع الذي يشغله من ناحية ومربٍّ تربوي من ناحية أخرى، ولعل شهادة إخوانه الكرام الذين عايشوه في العمل الخيري بجمعية الإصلاح الاجتماعي وعمله الحكومي في وزارة الأوقاف تكشف وتؤكد صدقية ما أقول، بل يؤكد أبعد من ذلك رواد مسجده من أصحاب صلاة الفجر من جماعة المسجد، حفظهم الله؛ إذ يشهدون له بالإيمان والتقوى، ولا مجال للمجاملة بل مجال لزيادة اللحمة والنسيج الواحد بيننا كمجتمع وكعاملين في مجال العمل الخيري الكويتي.
هكذا نحسبه فلم يترك باباً لنصرة أهل الحاجة والمساعدة في بقاع الأرض إلا وكان سباقاً إليه، ولقد كان غدوه ورواحه في طاعة الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها”.
شهادة دافعتني لها نفسي لتشهد بالحق فانصعت لها، وإنصافاً للحق، ورحم الله الفقيد رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته،
ولقد صدق الشاعر أحمد رافع العنزي من الجهراء عندما قال: بكاء الكون في رثاء الشيخ نادر النوري يرحمه الله:
قالوا فقدنا نادراً في فعله
قلت الندارة غالباً ما تفقد
مثل اللآلئ لا تكون جميلة
إلا إذا من قاع البحر تورد
يا شيخنا مهلاً رحلت وفي الحشا
شوق إلى لقياكم يتجدد
ليس الأنام وحدهم من قد بكوا
كل الديار لأجلكم تتجلد
أو لم تروا أن السماء حزينة
والأرض من أطرافها تتحدد؟
تبكيك دار كم غرست لأجلها
وكذا المدارس قد بكت والمسجد
تبكيك أقلام رثتك بشعرها
وكذا الحناجر قد بكتك وتنشد
تبكيك همتنا فكم علمتها
أن العظيم بهمة يتوقد
يا همة قد أتعبت من بعدها
والشمس تعطي نورها لا تنفد
لا لن يموت من انبرى في عمره
في زرع خير ذاك غرس يخلد
هذي هي الآثار تحكي قصة
في كل أرض جابــها وتردد
حمداً إله الكون ليس سواكم
عند المصائب نرتجيه ونحمد
رحماك في شيخ علمت فعاله
فارزقه جنات وفيها يسعد
إن لم يكن ثم اللقاء فإنه
في جنة عند المليك الموعد
(*) الأمين العام المساعد للجان الخيرية بجمعية الإصلاح الاجتماعي