في خضم تلك الفتاوى التي تصدر عن كثير ممن ينتسبون لأهل العلم من المشايخ وأساتذة الجامعات الإسلامية
في خضم تلك الفتاوى التي تصدر عن كثير ممن ينتسبون لأهل العلم من المشايخ وأساتذة الجامعات الإسلامية، بل وبعض طلاب العلم ممن تخرج من كليات الدراسات الشرعية والإسلامية، ورأى أهل التخصص ومعهم عامة الناس فتاوى غاية في البعد عن منهج الإسلام وروحه، فرأينا من يفتي بجواز قتل الناس، بل يوجب هذا لمتسلط ظالم، ورأينا من يفتي بإباحة المحرمات. مما يستدعي أن يكون لدى الناس ثقافة الإفتاء، ومن هو الذي يمكن أن نأخذ منه الفتوى؟ وما أهم مؤهلات من يتصدر للإفتاء؟ وهل مجرد أن يكون الإنسان معمماً بالعمامة التي تشير إلى الانتساب إلى المؤسسة الدينية يكون ذلك كافياً في أن نأخذ عنه الفتوى؟وكذلك الشأن من يظهر أمام شاشات التلفاز والفضائيات من الدعاة الذين يتحدثون في السُّنة والسيرة، وليسوا متخصصين في الفقه وأصوله، لكن لهم جمهور وشعبية، هل كون المتحدث داعية من دعاة الفضائيات كافياً لأن نأخذ عنه الحلال والحرام؟
شروط المفتي
فقد ذكر الأصوليون بعض الشروط التي يجب أن تتوافر في القائم بالإفتاء، ويمكن أن نقسمها إلى قسمين؛ القسم الأول: شروط تتعلق بشخص المفتي؛ وهي:
1- شروط عامة، تتلخص في التكليف والإسلام.
2- شروط أخلاقية: كالثقة والأمانة والتنزه عن أسباب الفسق ومسقطات المروءة، ومن أهمها العدالة.
3- شروط فكرية وتربوية: من سلامة الذهن ورصانة الفكر، وصحة التصرف والقدرة على الاستنباط والتيقظ، وجودة القريحة، ودقة الفهم لمقاصد الكلام ودلالة القرائن، وقد قال بذلك الإمام ابن الصلاح والنووي، ومن المعاصرين محمد بن أحمد الصالح، أحد علماء المملكة العربية السعودية، وكذلك د. أحمد طه ريان، الفقيه المالكي وأستاذ الفقه بجامعة الأزهر.
علم المفتي
القسم الثاني: شروط تتعلق بعلم المفتي، ومن أهم العلوم التي يجب على المفتي تحصيلها:
1- العلم بكتاب الله تعالى: المحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفصل.
2- العلم بالسُّنة النبوية، القولية والفعلية والتقريرية، والقدرة على معرفة حكم الأحاديث من حيث الصحة والضعف، ونحو ذلك.
3- العلم بمواطن الإجماع حتى لا يفتي بخلافه، والعلم بالخلاف والمذاهب والآراء الفقهية، حتى لا يضيق على الناس واسعاً، وأن يتخير من الآراء الفقهية ما يناسب حال المستفتي.
4- المعرفة التامة بعلم أصول الفقه، والقواعد الفقهية، ومقاصد الشريعة.
5- إدراك أنواع خاصة من الفقه، كفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الواقع، وفقه المقاصد، وفقه الأقليات وغيرها، مما يؤثر بنحو ما في فتواه.
6- تحصيل علوم الآلة والعلوم المساعدة، كعلم النحو والصرف والبلاغة واللغة والمنطق وغيرها.
وقد أجمل الإمام الشافعي غالب هذه الشروط بما نقله عن الخطيب البغدادي: لا يحل لأحد يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله؛ بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله [، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي، وتحصيل تلك العلوم إنما هي في المجتهد المطلق، أو ما يعرف بـ«الاجتهاد المطلق»، أما الاجتهاد الجزئي فلا يشترط فيه ذلك، كما قال به الإمام ابن الصلاح.
وقد حذر العلامة الشيخ ابن باز يرحمه الله من التساهل في الفتاوى، وأن يجب على المسلم أن يحتاط لدينه، وألا يأخذ الفتوى ممن هب ودب لا مكتوبة ولا مذاعة ولا من أي طريق لا يتثبت منه، سواء كان القائل علمانياً أو غير علماني، لابد من التثبت في الفتوى؛ لأنه ليس كل من أفتى يكون أهلاً للفتوى فلابد من التثبت.
والمقصود أن المؤمن يحتاط لدينه فلا يعجل في الأمور، ولا يأخذ الفتوى من غير أهلها، بل يتثبت حتى يقف على الصواب، ويسأل أهل العلم المعروفين بالاستقامة وفضل العلم حتى يحتاط لدينه، قال تعالى: {فّاسًأّّلٍوا أّّهًلّ پذٌَكًرٌ إن كٍنتٍمً لا تّعًلّمٍونّ >43<}(النحل)، وأهل الذكر هم أهل العلم بالكتاب والسُّنة، فلا يُسأل من يُتهم في دينه أو لا يُعرف علمه أو يُعرف بأنه منحرف عن جادة أهل السُّنة. (مجموع فتاوى ابن باز، 6/50).
التجرؤ على الفتيا
ويحذر الأستاذ الدكتور حسام الدين عفانة، أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس، من التجرؤ على الفتيا من بعض المنتسبين للعلم، وأنه يظن كثير من الناس أن إطلاق لقب شيخ على شخص ما يكفي ليكون فقيهاً ومفتياً، ويظن آخرون أنه إذا حصل أحد المشايخ على شهادة جامعية عليا كانت أو دنيا فهذا مؤهل كافٍ للفتوى في دين الله، كما يظن آخرون أن أئمة المساجد هم أهل الفتوى، ويظن آخرون أنه إذا قرأ كتاباً من الكتب الشرعية فإنه قد صار شافعي زمانه، وهكذا.
فلا يكفي أن يتعرض للفتوى في دين الله من ليس له صلة بالفقه والأصول وإن كان قد درس التفسير أو علوم القرآن أو الحديث أو السياسة الشرعية، وكذلك فإن كثيراً من الموظفين الرسميين في الوظائف الدينية ليسوا أهلاً للإفتاء في دين الله.
وكذلك المثقفون بالثقافة الدينية الذين قرؤوا الكتب بأنفسهم أو على أقرانهم فهؤلاء لا يوثق بعلمهم؛ لأن العلم الشرعي لابد فيه من التلقي على أيدي العلماء والشيوخ، ولا يكفي أخذه من الكتب أو أن يأخذه طالب علم عن طالب علم مثله، بل الصحيح أن يأخذه طالب العلم عن شيخه، قال الإمام الشافعي: من تفقه من الكتب ضيع الأحكام. (فتاوى يسألونك، 5/ 215).
ومن أهم ما يشير إليه الشيخ القرضاوي في الحديث عن المفتي هو أخلاق المفتي التي يجب أن يتحلى بها، ومن ذلك:
1- ألا يُيئِّس الناس من رحمة الله سبحانه وتعالى.
2- ألا يرخص لهم في المعاصي.
3- أن يكون ذا ورع، فلا يسخر ممن أسفل منه، ولا يهمز من فوقه، ولا يأخذ على علم علمه الله حطاماً، كما نقل عن الحسن البصري.
4- أن يكون له عزم مع نفسه، فيعمل في خاصته بما لا يلزم به الناس، كما نقل ذلك عن الإمام مالك.
5- أن يحيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى، وألا يجد في ذلك حرجاً في صدره، أو تقليلاً من شأنه، فالعلم رحم بين أهله.
6- أن يتشاور مع إخوانه من أهل العلم؛ ليزداد استيثاقاً واطمئناناً إلى فتواه، وقد كان هذا من شأن عمر ]، إذ كان يجمع علماء الصحابة ويشاورهم، بل كان يطلب رأي صغار السن فيهم مثل عبدالله بن عباس، الذي قال له مرة: تكلم ولا يمنعك حداثة سنك.
7- أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له، فالرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصر عليه عناداً وكبراً، أو خجلاً من الناس.8- أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه، فلا يخضع لأهواء العوام، ولا لأغراض السلطان، بل يجعل رضا الله تعالى غايته ومبتغاه.
9- أن يشعر بالافتقار إلى الله تعالى، وصدق التوجه إليه، والتضرع له سبحانه.
10- أن يكثر من الدعاء أن يوفقه الله للصواب ويجنبه زلل الفكر واللسان والقلم، ويحفظه من اتباع الهوى.
أخلاق المفتي
وتعود أهمية الحديث عن أخلاق المفتي في عصرنا أننا وجدنا بعض أهل العلم ممن لهم نصيب فيه قد ضلوا وأضلوا، ولم يؤتوا من قبل علمهم، ولكن من قبل أخلاقهم، فإن كان العلماء اهتموا ببيان شروط المفتي من الناحية العلمية، فإن الاهتمام يكون أكثر في عصرنا – بعد التمكن من العلم – من الناحية الأخلاقية، وقد تحدث علماء السلف عن المفتي الماجن الذي يحجر عليه، لأنه يفتي الناس بتحليل الحرام وتحريم الحلال، مخالفاً إجماع الأمة، فهذا واجب الأمة أن تمتنع عن فتواه، وأن تبحث عمن جمع بين العلم والأخلاق، حتى لا يضل الناس بدين الله.>
الأدلة الشرعية
أشار سماحة الشيخ ابن باز – يرحمه الله – إلى أن الفتوى يجب أن تستند إلى الأدلة الشرعية، وإذا صدرت الفتوى عن جماعة من أهل العلم كانت أكمل وأفضل للوصول إلى الحق، لكن هذا لا يمنع العالم أن يفتي بما يعلمه من الشرع المطهر. (مجموع فتاوى ابن باز، 8/ 426).
وأشار سماحة الشيخ العلامة الشيخ د. يوسف القرضاوي إلى بعض الأمور الأخرى التي تشترط في الفتوى، ومن أهمها بخلاف ما سبق:
1- أن يعايش الفقهاء في كتبهم وأقوالهم، ويطلع على اختلافهم، وتعدد مداركهم، وتنوع مشاربهم، ولهذا قالوا: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه!
2- يجب أن يكون واعياً للواقع، غير غافل عنه، حتى يربط فتواه بحياة الناس، فهو لا يكتب نظريات، ولا يلقي فتواه في فراغ، ومراعاة الواقع تجعل المفتي يراعي أموراً معينة، ويضع قيوداً خاصة، وينبه على اعتبارات مهمة.
3- لابد للمفتي من ثقافة عامة، تصله بالحياة والكون، وتطلعه على سير التاريخ، وسنن الله في الاجتماع الإنساني، حتى لا يعيش في الحياة وهو بعيد عنها، جاهل بأوضاعها.