يخلط بعض الناس بين مشيئة الله ومشيئة العبد في الهدى والضلال، ولتوضيح المسألة نتحدث عن نقطتين؛ أولاهما في حرية العبد في اختياره، وثانيتهما في التوفيق بين مشيئة الله ومشيئة عبده.
يخلط بعض الناس بين مشيئة الله ومشيئة العبد في الهدى والضلال، ولتوضيح المسألة نتحدث عن نقطتين؛ أولاهما في حرية العبد في اختياره، وثانيتهما في التوفيق بين مشيئة الله ومشيئة عبده.
أولاً: حرية العبد في اختياره للهدى والضلال:
قضية مشيئة العبد وإرادته من أولى القضايا التي شغلت الفكر الإسلامي في مراحله الأولى، فظهر في البيئة الإسلامية تياران متعارضان، «تيار الجبرية» يقول بالجبر وسلب العبد مشيئته وإرادته، وأنه كالريشة في مهب الريح، والذي أخذ هذه المقولة من يهود الشام.. و«تيار القدرية» الذي يقول بنفي مشيئة الله ونفي القدر، واشتهر عنهم قولهم: لا قدر والأمر أنف، وأنعم الله على الأمة بأن هيأ لها بعض الولاة والأمراء في عهد الدولة الأموية من أمر بقتل حاملي لواء هذين التيارين درءاً للفتنة.
وإذا تلاعب الشيطان بفكر البعض في واقعنا المعاصر وأوهمه أن العبد ليس له حرية في الاختيار، أو أنه مجبور على الأفعال.
مسؤولية الإنسان
وللرد على هؤلاء نقول: إن الله تعالى جعل الجنة للمهتدين والنار للضالين؛ مما يدل بوضوح على أن الإنسان هو المسؤول عن الضلالة والهدى، واستثنت الشريعة بعض الحالات من المسؤولية كالصبي والمجنون والمكره وعدم وصول الدعوة؛ (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً {15}) (الإسراء)، ولو أجبر الله الإنسان على الهداية أو الضلال لما كان للثواب والعقاب من معنى.
فمن هنا ينبغي أن نقرر أن حرية الإنسان في مشيئته؛ لما أمده الله به من إرادة وحرية، وقدرة على الفعل، وما خلقه له من القوى والملكات، وجعل الله ذلك مناط تكليفه واختياره(1).
وبين القرآن للإنسان طريق الهدى ورغب فيه، وطريق الضلال ورهب منه؛ (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ {8} وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ {9} وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ {10}) (البلد).
فقد أثبت القرآن للعبد المشيئة والاختيار؛ (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً {2} إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً {3}) (الإنسان).
فتثبت هذه الآية وغيرها حرية الإنسان واختياره، ومشيئته للهدى والضلال، وأنه بهذه المشيئة والاختيار يستطيع أن يشكر ويستطيع أن يكفر، وقد نطق القرآن الكريم بإسناد الفعل إلى العبد في كثير من آياته، مثل قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ {46}) (فصلت)(2).
فالهدى يتم باختيار الإنسان، والله سبحانه وتعالى خلق له أسبابه، وذلك يتم بتوفيقه للهدى إن هو اختار هذه الأسباب، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {36}) (النحل:36).
يقول الشيخ سيد قطب: ففريق استجاب؛ «فَمِنْهُم منْ هَدَى اللَّهُ»، وفريق شرد في طريق الضلال؛ «وَمِنْهُم منْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ».. وهذا الفريق وذاك كلاهما لم يخرج على مشيئة الله، وكلاهما لم يقسره الله قسراً على هدى أو ضلال، إنما سلك طريقه الذي شاءت إرادة الله أن تجعل إرادته حرة في سلوكه، بعد ما زودته بمعالم الطريق في نفسه وفي الآفاق.
كذلك ينفي القرآن الكريم بهذا النص وهْم الإجبار الذي لوح به المشركون، والذي يستند إليه كثير من العصاة والمنحرفين.
والعقيدة الإسلامية واضحة في هذا الجانب، فالله يأمر عباده بالخير وينهاهم عن الشر، ويعاقب المذنبين أحياناً في الدنيا عقوبات ظاهرة يتضح فيها غضبه عليهم، فلا مجال بعد هذا لأن يقال: إن إرادة الله تتدخل لترغمهم على الانحراف ثم يعاقبهم عليه الله! إنما هم متروكون لاختيار طريقهم، وهذه هي إرادة الله، وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر، من هدى ومن ضلال، يتم وفق مشيئة الله على هذا المعنى الذي فصلناه(3).
ونخلص من هذا كله إلى أن الإنسان كائن حر مختار في هداه وضلاله، قادر على الفعل، وأنه محاسب ومجازى على اختياره وفعله، والله تعالى لا يجبر أحداً على الهداية أو على الضلال، بل يوجه الرسالة للجميع، فمن استجاب زاده نوراً على نور، ومن رفض عاقبه عقاباً شديداً.
فإرسال الرسل من الله، وبيان الشريعة على الله، ومد يد العون والمساعدة من الله دون إكراه أو جبر، أما الاستجابة من عدمها فمن الإنسان بمحض اختياره.
ثانياً: التوفيق بين مشيئة الله ومشيئة العبد للهدى أو الضلال:
مادام الإنسان كائناً حراً مختاراً في هداه وضلاله، قادراً على الفعل، محاسباً ومجازى على اختياره وفعله، ومادام الله تعالى لا يجبر أحداً على الهداية أو الضلال، فكيف نجمع بين ذلك، وبين ما يقرره صريح القرآن من إرجاع كل شيء في الوجود إلى الله عز وجل، ومنه الهدى والضلال؟ أو بعبارة أخرى: كيف نوفق بين مشيئة الله ومشيئة العبد للهدى أو الضلال؟
نقول: إن الله عز وجل أسند الهدى والإضلال إلى مشيئته سبحانه في كثير من الآيات، منها قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {4}) (إبراهيم).
والواقع أن هذه وأمثالها نصوص عامة لا بد وأن تحمل على النصوص المقيدة، فليست مشيئة الله للهداية والإضلال بأحوال خاصة وأسباب معينة، وهذه الآيات المقيدة تبين لنا من يشاء الله تعالى هدايته ومن يشاء إضلاله، وهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل.
لقد ربط الله عز وجل في كثير من الآيات بين مشيئة العبد للهدى والضلال، ومشيئته سبحانه وتعالى لهما.
والله سبحانه لا يشاء إلا العدل، والرحمة، فهداية الله سبحانه لعباده أو إضلالهم إنما تقوم على أساس ترتب المسببات على أسبابها، والنتائج على مقدماتها، كما دل على ذلك كثير من الآيات، ومنها قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ {27}) (إبراهيم)، يبين سبحانه وتعالى في هذه الآية أن سبب إضلاله لبعض عباده هو ظلمهم.
وفي ذلك يقول ابن القيم: «تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال، فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى، اقتضاء السبب لمسببه والأثر لأثره، وكذلك الضلال، فأعمال البر تثمر الهدى، وكلما ازداد منها هدى، وأعمال الفجور بالضد، أن الله سبحانه يحب أعمال البر فيجازي عليها بالهدى والفلاح، ويبغض أعمال الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء»(4).
وقد يقال: إذا كان الله منح عبده الحرية والاختيار فما معنى قوله تعالى: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {29}) (التكوير)، لكنا نقول: إن معناها أن الإنسان لا يشاء شيئاً إلا إذا كان في حدود مشيئة الله وإرادته، فمشيئة البشر ليست مشيئة خارجة عن حدود مشيئة الله، والله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقين: طريق الهداية، أو طريق الضلالة، فإذا اختار الطريق الأول، ففي نطاق المشيئة الإلهية، وإذا اختار الطريق الثاني ففي نطاقها أيضاً، وكل الآيات التي جاءت على هذا النحو فمعناها لا يتعدى ما ذكرناه.
وقد يقال أيضاً: لقد جاء في القرآن الكريم: (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {93}) (النحل).
نتائج لمقدمات
أي أن الله يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته، وإذا كان الله يضل ويهدي فليس للعبد حرية الاختيار، والواقع أن الهداية والإضلال نتائج لمقدمات، ومسببات للأسباب، فكما أن الطعام يغذي، والماء يروي، والسكين تقطع، والنار تحرق، فكذلك هناك أسباب توصل إلى الهداية، وأسباب توصل إلى الضلال، فالهداية إنما هي ثمار عمل صالح، والضلال إنما هو نتائج عمل قبيح.
فإسناد الهداية والإضلال إلى الله من حيث إنه وضع نظام الأسباب والمسببات، لا أنه أجبر الإنسان على الضلال والهداية.
وحينما نرجع إلى الآيات القرآنية نجد المعنى بيناً وواضحاً، لا لبس فيه ولا غموض فالله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69}) (العنكبوت)، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ {17}) (محمد).
فهداية الله للناس بمعنى لطفه بهم، وتوفيقهم للعمل الصالح، إنما هي ثمرة جهاد للنفس وإنابة إلى الله، واستمساك بإرشاده ووحيه(5).
وهذا يعني أن الهداية والإضلال والتي هي فعل الله عز وجل، تقع جزاء لفعل العبد من اختياره وسلوكه طريق الهدى، أو اختياره وسلوكه طريق الضلال.
إذن فلا تناقض بين مشيئة العبد واختياره وبين مشيئة الله وتقديره، لأن الهداية والإضلال اللتين هما فعل الله عز وجل تقع جزاء لفعل العبد من اختياره وسلوكه طريق الهدى، أو اختياره طريق الضلال.. فاللهم خذ بأيدينا إلى طريق هداك وجنبنا طريق الضلال.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) شرح العقيدة الطحاوية، ص 494، تحقيق ومراجعة جماعة من العلماء، ط. المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط. 4.
(2) واقرأ: الشمس (9 -10)، والأنعام (159)، والمدثر (38)، وغيرها من الآيات، وانظر: السنن الإلهية في الحياة الإنسانية 1/103 – 104.
(3) الظلال، 3/2171.
(4) الفوائد، ص 129.
(5) السيد سابق: العقائد الإسلامية، طبعة الفتح للإعلام العربي، ط. 10، 1420هـ/2000م، ص 92.