صباح الثلاثاء الماضي (31/3/2015) وقع عطل أدى إلى انهيار مفاجئ وغير معروف الأسباب في شبكة الطاقة التركية، ونتيجة لذلك فقد انقطع التيار الكهرباء عن معظم الأراضي التركية.
وشمل ذلك حوالي 79 محافظة من أصل 81، تضم عشرات المدن الكبرى التي يتجاوز عددها الثلاثين مدينة، ولا سيما المدن التي تقع على الأطراف في “تراكيا” (شمال غرب تركيا) والبحر الأسود (شمالي تركيا) وبحر إيجة والبحر المتوسط وجنوب شرقي تركيا، بالإضافة إلى شرق هضبة الأناضول وبعض مدن العمق التركي كالعاصمة التركية أنقرة.
وخلال ثوانٍ معدودة أدى انقطاع التيار الكهربائي عن كل هذه المدن إلى نشر حالة من الهلع وتوقفت جميع صور الحياة الاعتيادية، فأصيبت حركة المرور بالشلل التام نتيجة تعطل إشارات المرور، وتوقف المترو والترامواي حيث علق الناس في الأنفاق ومصاعد المباني، وأصاب الانقطاع قطاعات حيوية كالمستشفيات والشرطة والمرافق العامة، وأثر أيضاً على حركة الملاحة.
كما أنه لم يستثن مرافق إستراتيجية ذات طابع اقتصادي، فقد كانت مقاطعة كوجلي التي تعد مركزاً من مراكز التصنيع في تركيا من أكثر المدن تضرراً، وتوقفت الأعمال وتعطلت أيضاً نتيجة انقطاع الكهرباء بعض الخدمات في بعض المناطق كالإنترنت.
وعلى الفور تم تشكيل خلية أزمة في وزارة الطاقة، ونفى وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي “تانر يلدز” أن يكون سبب العطل عائداً إلى نقص في الطاقة، مشيراً إلى أنه قد يكون ناجماً عن مشكلة في خطوط النقل أو ناتجاً عن سبب فني آخر، فيما علق رئيس الوزراء “أحمد داود أوغلو” على سؤال عما إذا كان العطل ناجماً عن عمل إرهابي، قائلاً: إنه يجري التحقيق في جميع الاحتمالات الممكنة.
وبعد مرور ساعات طويلة بدأت الكهرباء بالعودة تدريجياً إلى بعض المدن، وقد استغرق الأمر في بعض الحالات بين ثماني وعشر ساعات لعودتها كما حصل في العاصمة أنقرة.
ومع أن الكهرباء عادت إلا أنه لم يتم الإعلان عن السبب الحقيقي الذي أدى إلى كل ذلك في واحدة من أسوأ الحالات التي شهدتها تركيا منذ عام 1999م؛ أي قبل حوالي 16 عاماً عندما ضرب زلزال مدمر مرمرة.
في الساعة الثامنة وأربعين دقيقة من مساء ذلك اليوم أصدر وزير الطاقة بياناً قال فيه: إنه تمت استعادة الطاقة في كامل البلاد، وإنه سيبذل الجهود مع المسؤولين لمعرفة السبب الحقيقي لما جرى، علماً أنه كان قد صرح بأنه سيجري تحقيقاً في ما إذا كان سبب العطل فنياً أم أنه ناجم عن هجوم إلكتروني.
الانطباع الأولي لما جرى يعطي مؤشرات جدية على أنه عائد فعلاً إلى هجوم إلكتروني ما لم يتبين عكس ذلك، خاصة أن بعض المصادر عزت الموضوع إلى خلل تقني في أنظمة مؤسسة نقل الطاقة التركية التي تتولى مهام تشغيل خطوط نقل الطاقة، فوزير الطاقة أشار عند وقوع العطل إلى أنه لا يوجد نقص في الطاقة، كما أن الموسم الحالي ليس موسم الذروة في استهلاك الطاقة في البلاد حتى يقال: إن العطل قد يكون ناجماً عن الضغط التي تعرضت له الشبكة الكهربائية.
لكن إذا كان الأمر عائداً فعلاً إلى هجوم إلكتروني؛ فمن هي الجهة المشتبه بها يا ترى؟ ومن لديه مصلحة في ذلك؟ ومن من الممكن أن يكون؟
مبدئياً، فإن الدول القادرة على إطلاق هجمات إلكترونية متطورة تكاد تكون معدودة، في السنوات القليلة الماضية نشطت العديد من الدول ولا سيما الصين وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا و”إسرائيل” وبعض الدول من الصفين الثاني والثالث كالهند وباكستان وكوريا الشمالية وإيران بصورة صامتة لتطوير قدراتها في الحرب الإلكترونية، وبناء جيوش من الخبراء الذين قد يشكلون مستقبلاً نواة الجيش الإلكتروني للدولة.
في ورقة بحثية نشرت للباحث في بداية عام 2011م تحت عنوان “المجال الخامس.. الحروب الإلكترونية في القرن الـ21″، يمكن ملاحظة أن كل دولة من الدول المذكورة أعلاه تتمتع بقدرات مختلفة، كما أن سلوكها في استخدام قدراتها الإلكترونية مختلف.
الألمان – على سبيل المثال – يتمتعون بقدرات عالية ومتطورة، ولكنها مقيدة ويتم كبحها بدافع ذاتي خاصة في الأعمال السرية، أما الروس والصينيون فهم ليسوا كذلك على الإطلاق، وهناك نزعة هجومية واضحة في عملهم، وتنسب إليهم معظم الهجمات التي تتم اليوم في الفضاء الإلكتروني.
باستثناء “إسرائيل”، تعد إيران من أوائل دول المنطقة في تطوير جيش إلكتروني، وتمتلك الجيش الأكبر على صعيد المنطقة، فوفقاً لنائب ممثل المرشد الأعلى في الحرس الثوري، فإن الحرس الثوري يمتلك رابع أكبر قوة إلكترونية في العالم، علماً أن البعض يشير إلى أنه كان من حيث الحجم الجيش الثاني عالمياً بعد الصين.
فالروس متهمون – على سبيل المثال – في أشهر حالتين في السنوات العشر الأخيرة، أي هجمات إستونيا في ربيع عام 2007م، وجورجيا في صيف عام 2008م، أما الصينيون فقد شنوا العديد من الهجمات الشرسة في مجال التجسس لعل أهمها محاولات اختراق البنتاجون عام 2007م.
وينسب إلى الأميركيين و”الإسرائيليين” هجوم “ستكسنت” الشهير عام 2010م الذي ضرب الوحدات الصناعية في عدد من الدول، كان أبرزها إيران حيث كان يستهدف بعض النواحي المحددة من برنامج إيران النووي.
إذا ما تبين أن العطل المفاجئ الذي أصاب شبكة الطاقة في تركيا وأثر أيضاً على بنيتها التحتية ناجم عن هجوم إلكتروني فقد تكون إيران هي المشتبه فيها الأولى في هذه العملية، إذ إن الدول المذكورة أعلاه – وعلى عكس إيران – تفتقد في هذه المرحلة إلى الدافع، فالبلدان الآن منخرطان في تنافس إستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، وهما على طرفي نقيض في كل الملفات الإقليمية تقريباً دون استثناء، حيث يبدو الصراع صفرياً في بعض البلدان.
التصاعد في نبرة التحدي وصل لذروته بين البلدين مع تأييد تركيا لعملية “عاصفة الحزم” التي تقودها المملكة العربية السعودية وتشكل الدول العربية عمودها الفقري، والتصريحات القوية جداً لرئيس الجمهورية التركية “رجب طيب أردوغان” والتي قال فيها صراحة: إن جهود الهيمنة الإيرانية على المنطقة باتت تزعج أنقرة والسعودية ودول الخليج العربية.
وقال: إن على إيران أن تسحب قواتها من اليمن وسورية والعراق، وأن تتوقف عن التصرفات التي تهدد الأمن والسلام في المنطقة، مؤكداً أن على إيران أن تغير رؤيتها وأن موقفها ليس أميناً لأن لديها أجندة طائفية.
وقد أثارت هذه التصريحات غضباً عارماً لدى المسؤولين في إيران، وتوالت الردود الرسمية عليها، بعضهم هاجموه والبعض الآخر طالبه بالتوضيح المقنع والاعتذار، فيما صدرت بعض الدعوات التي طالبت بإلغاء زيارته المقررة إلى طهران في الشهر الحالي.
وفقاً لتقرير سابق أعده الباحث في هذا المجال عام 2013 تحت عنوان “الجيش الإلكتروني الإيراني”، يضع تقرير صادر في عام 2008م لـ”ديفانس تيك” إيران في المرتبة الخامسة عالمياً من حيث الدول التي تمتلك قدرات حرب إلكترونية مهمة، أما “ريتشارد كلارك”، المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي ومؤلف كتاب “الحرب الإلكترونية”، فقد كان قد صنف في كتابه هذا الصادر في عام 2010م إيران على أنها تقع مباشرة بعد الصين من حيث امتلاك القدرات الهجومية في الحرب الإلكترونية.
في عام 2011م لوحظ قيام السلطات الإيرانية بعملية تجنيد واسعة لتعزيز القدرات الإلكترونية في البلاد من خلال البحث عن قراصنة محترفين، وأيضاً عن شباب طموحين يتقنون تقنيات الكمبيوتر والالتفاف على أجهزة المراقبة الحكومية، والقيام بإغرائهم بمبالغ طائلة من أجل تجنيدهم وتحويلهم إلى قراصنة محترفين.
“التهديدات غير التقليدية – التي باتت إيران تمتلكها وتستخدمها – لا تقتصر فقط على مليشياتها وقدراتها النووية، هناك قصور لدى الدول الإقليمية أيضاً في مواجهة مخاطر في مجال الحروب الإلكترونية، وإذا تبين أن طهران مسؤولة عما حصل بتركيا فهذا يعطينا فكرة عما تستطيع إيران فعله وتخريبه.
وفقاً لـ”محسن سازيغارا”، وهو عضو سابق في الحرس الثوري، فإن النظام الإيراني يدفع حوالي عشرة آلاف دولار شهرياً لهؤلاء، وعلى الرغم من أن هذا الرقم يعد رقماً كبيراً جداً في إيران، فإنه يعد صغيراً مقارنة بالمهمة التي يقوم بها هؤلاء، ومقارنة بالتكلفة التي من المفترض أن تتحملها الدولة في حال أرادت شن حرب تقليدية.
صحيح أن الانطباع العام لدى عدد من الخبراء أن إيران لا تزال تنتمي عموماً إلى الصف الثالث بين الدول التي تتمتع بقدرات في الحرب الإلكترونية، لكن هذا التصنيف لا يعني أنها غير قادرة على إلحاق الأذى والدمار بدول الصفين الأول والثاني، ولا يلغي أيضاً حجم التهديدات الصادرة عن جيشها الإلكتروني، أو ما يسمون محاربي الإنترنت.
وبخلاف قوى أخرى مثل روسيا والصين، فإن الاهتمام الإيراني بالحرب الإلكترونية إنما يركز على قدرات إلحاق الأذى أكثر من التركيز على عمليات التجسس والسرقة.
في أغسطس 2012م قامت مجموعة مجهولة بشن هجوم إلكتروني عنيف استهدف شركتين خليجيتين، وقد أدت العملية حينها إلى شل عشرات الآلاف من أجهزة الكمبيوتر في الشركتين، وتوصلت التحقيقات حينها إلى أن إيران هي المسؤولة عن هذه الهجمات.
في العام الأخير لوحظ أن إيران استطاعت أن تحدث نقلة في قدراتها، بعض الخبراء في مجال الفضاء الإلكتروني باتوا يضعونها في مرتبة قريبة من روسيا والصين.
في ديسمبر 2014م أظهر تقرير “كايلانس” عن الأمن الإلكتروني أن إيران كانت تقف وراء هجمات نوعية على خمسين مؤسسة في 16 دولة من بينها الولايات المتحدة، وأنها تمكنت من اختراق العديد منها، من بينها أماكن حساسة في شبكة البنية التحتية الأميركية كالمياه والغاز والنقل وشبكات أمن المطارات.
المصدر: “الجزيرة نت”