السفير د. عبدالله الأشعل
كان مجلس الدولة دائماً حصن الحقوق والحريات، وقد قصد السنهورى باشا ذلك تماماً بعد أن فتن الرجل بمجلس الدولة الفرنسي، وأراد في إطار الإصلاح القضائي الذي بدأته مصر بعد اتفاقية إلغاء الامتيازات الأجنبية في مونترو عام 1937م أن يرد مجلس الدولة عن المواطنين تغول الحكومة، وقراراتها الإدارية، بل إن أحد قضاة المجلس – رحمه الله – سجل مسيرة المجلس، مثلما سجلته دراسات قضاة آخرين، في هذا المضمار. ولعل المواطن قد لاحظ أن مجلس الدولة احتفظ إلى حد بعيد باستقلال وكفاءة ميزته على الكثير من شعب القضاء الأخرى. وبهذه المناسبة أرجو من شباب القضاة في جميع درجات وأنواع المحاكم أن يدافعوا عن فكرة القاضي الطبيعي، وأن يعيدوا إلى القضاء اعتباره الذي عصفت به الأنواء السياسية خلال السنوات القليلة الأخيرة، حرصاً على هذا الصرح المهم في مؤسسات الدولة، وفي مقدمتهم شباب قضاة الدستورية العليا، ولا أظن أن الوقت قد حان لتقييم موضوعي لعمل الجهاز القضائي بأكمله من الناحية القانونية الدقيقة.
ولا شك أن التظاهر والإضراب من مظاهر التعبير التي أكدتها ثورة يناير والتي كان يتعين أن ينظم القانون المصالح المختلفة التي بنظمها هذا الحق، وألا يكون القانون مانعاً لهذا الحق.
وقد أحسن الحكم في تعريف الإضراب، وميز بين إضراب موظفي الحكومة وبين إضراب موظفي القطاع الخاص، فشدد على قدسية العمل في الحكومة بصفته مرفقاً عاماً اقتداء بموقف المشرع السابق في التمييز بين المرافق الحكومية، والمرافق التي تدار بالامتياز (أي القطاع الخاص والاستثماري الحالي)، ولكن المشكلة أن إطلاق الإضراب دون ضابط في القطاع الخاص رسالة للمستثمر الذي لم يعد يأمن على استثماره، بينما أحيط المرفق العام بقدسية متطرفة. فهل يستوي إضراب الأطباء مع إضراب الشرطة، والخارجية والتمويين والعدل والقضاة؟ ولماذا لم يعالج القانون أو يوجه الحكم إلى المتسبب في الإضراب وعدم اكتراثه، مما يوسع دائرة الظلم؟ وأين يذهب الموظف الذي سدت أمامه أبواب التعبير عن مظلمته: لقد قال لي أحد وزراء الخارجية ذات يوم ما سجلته في خطاب استقالتي منذ سنوات أن باب القضاء الإداري مفتوح وربما يحصل أحفادك على حقك المهدر، ولكنك في حياتك لن تنل شيئاً، وهذا الموقف بذاته يدفع إما إلى القضاء على الطرف المتجبر، أو الموت كمداً وحسرة. وما قول مجلس الدولة في امتناع القضاة ورجال الشرطة والجيش والخارجية عن الإشراف على استفتاء دستور 2012 في عهد الرئيس محمد مرسي؟ ألا يعد ذلك صورة من صور الإضراب حسب التعريف الذي قدمه الحكم، وكلهم موظفون عموميون ومكفلون من سلطة شرعية حينذاك؟
ويثير الحكم الصادر عن الإدارية العليا بشأن الإضراب في أبريل 2015 عدداً من القضايا الخطيرة، خاصة وأن أحكام الإدارية العليا ترسي – كما هو معروف – مبادئ عامة، تلتزم بها محاكم القضاء الإداري.
القضية الأولى: هي أن الحكم استند في دراسته لتطور المشروع بالنسبة لعقوبة المضرب إلى أن الإضراب محظور، بينما الإضراب حق ثابت في المعاهدات الدولية التي صدقت مصر عليها، بل أصبح من أهم حقوق الإنسان التي يجوز تنظيمه ولا يجوز حظره.
بل إن الحكم توقف عند أقصى درجات التجريم والخطر فيما تضمنته قرارات المجلس العسكري، وهو حكم استثنائي لا يعتد به في سياق تطور التشريع، لأن المجلس العسكري ليس سلطة تشريعية، ولا يمكن القول أنه تمتع في أي يوم بسلطة تشريعية، وإنما قصارى سلطته هي إصدار قرارات تنظيميه لها صفة التأقيت ولا تحسب في سياق تطور الفكر التشريعي.
القضية الثانية: هي أن الحكم لم يعتد بالحق في الإضراب في دساتير مصر بعد الثورة وهو من أهم مكتسبات الثورة وكنا نتوقع أن يسهم الحكم في بلورته وسبل تنفيذه وضوابطه، خاصة وأن القانون الإداري كما تعلمنا هو قانون قضائي أي هو حصيلة التشريع غير منفك عن ضوابطه القضائية.
القضية الثالثة: أن منطوق الحكم يوحي بأن القرار بحظر الإضراب هو المنطلق للتبرير، بحيث صارت الحيثيات مبررات، وقضاة مجلس الدولة أعلم مني في تعريف الحيثيات، فهي الركائز التي تحمل الحكم في النهاية، وليست مبررات لتقديمه. فالمنطق هو إباحة الإضراب وليس حظره، والخطورة في هذه المرحلة هي أن يكون الاتجاه العام إلى تقييد الحقوق والحريات قد امتد إلى أعمال مجلس الدولة هو الآخر.
القضية الرابعة: أن الحكم اتجه إلى دعم موقفه في حظر الإضراب بالاستناد إلى الفقه الإسلامي، ولا نرى لزوماً لذلك مطلقاً، فالقضية قانونية بحته وليست شرعية، وهذا يحتاج إلى تفسير لأن التمسح بالشريعة لتبرير المحظورات يتنافى مع أصل الشريعة في تأكيد الإباحة كأصل، فالمنهج لا يستقيم حتى في هذه الزاوية، لأن القضية هي: هل للموظف العام والخاص الحق في الإضراب أم لا؟ وما هو البديل الحقيقي، خلافاً للطريق القانوني الذي يعتمد الظالمون على طوله وإرهاقه لإنصاف الموظف الذي يتعرض لكل صنوف المحسوبية والقهر وعدم احترام الإدارة ابتداء للقانون؟
فإذا كان الحكم قد انطلق من فرضية حظر الإضراب وتجريمه فهذه بداية خاطئة، لأن الحق في الإضراب ثابت دستورياً أم أن الحكم لاحظ أنه لم يحن بعد تطبيق أحكام الدستور الذي أسرعوا بإقراره بلجنة الخمسين، قياساً على ما هو صائر الآن في مصر، وهو الانفصال الكامل بين النص الدستوري، وتصرفات الدولة- القانونية؟!.
القضية الخامسة: أن الحكم قد أغفل أن الحق في الإضراب له سابقه خطيرة في مصر تناولتها في رسالتي للدكتوراه في جامعة باريس منذ عقود، وهو أن العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي استخف به الحكم، قد تطرفت في تطبيقه محكمة أمن الدولة طوارئ عام 1987 بمناسبة إضراب موظفي السكك الحديدية، فاعتبرت خطأ أن نص العهد الذي كانت مصر قد انضمت إليه قد نسخ الحظر في القانون المصري، واعتبرت أن نص المعاهدة قد حل بحكمها محل نص القانون. وفي ذلك تفصيل، ولكنى لاحظت أن القاضي المصري بحاجة إلى المزيد من التعرف على المعاهدات الدولية ووضعها في النظام القانوني المصري، فهي بلا شك جزء منه إلى جانب القانون الوطني، وجميع الشراح في الفقه الدولي، خلافاً لما انتهى إليه حكم الإدارية العليا، يرون أن المعاهدة تلزم الدولة ويرتب التطبيق القضائي الخاطئ لها المسؤولية الدولية عن طريقين، الأول أنه انتهاك لنص المعاهدة بشكل صريح، والثاني أن مضمون الالتزام يقع ضمن حقوق الإنسان الأساسية، مما يعرض الدولة المصرية للمساءلة القانونية في حكم نهائي كهذا.
الملاحظة السادسة: هي أن الحكم طبق التحفظ المصري بشكل متعسف، فالتحفظ عام، وهذه مشكلة أخرى في تكوين القضاة من زاوية القانون الدولي، فإذا كان الحكم قد نحى نحو الفقه الإسلامي دون مبرر، فقد كان هذا المنحى مبرراً له لمنع تطبيق المعاهدة فيما يتعلق بالإضراب، بحجة مخالفتها للشريعة الإسلامية، وهذا يفتح الباب إلى تعريض مصر للمساءلة الدولية من ناحية، ومن ناحية أخرى هو باب واسع لتهرب الدولة من التزاماتها الدولية. ثم إن الحكم وهو يجهد نفسه للوصول إلى هذه النتيجة قد استنجد في استدلال غير سائغ بالمادة الثانية من الدستور، فالمادة تخاطب المشرع وليس القاضي حسبما فسرت المحكمة الدستورية العليا في عصورها الزاهرة، وليس على القاضي إلا أن يصدع لأمر المشرع، وقصارى ما يفعله أن ينبه إلى القصور التشريعي حتى يمكن سده.
لقد خاض الحكم في منطقة خطرة هي التخوم الدولية والوطنية للقانون الدولي، قد يدفع بالمفوضية السامية لحقوق الإنسان، ومنظمات حقوق الإنسان إلى الاحتجاج على تفسير غريب لمعاهدة دولية وإنكار صريح لحق أساسي من حقوق الإنسان في الدول المتحضرة، إذا كانت مصر لا تزال تصر على أنها واحدة منها. ولا أظن أن المجلس المصري الحالي لحقوق الإنسان له علاقة بذلك.
الخلاصة: جرد الحكم الموظف العام من حقوقه الأساسية وألحقه بالدولة والنظام وسوى بينهما، وبذلك أدى إلى تغيير الطبيعة القانونية في علاقة الموظف بالوظيفة وبالدولة، وخلط بين المواطن، والموظف، وحامل الجنسية، وأقام نوعاً من العبودية الإدارية، لا تقل عن عبودية الأرض وعبودية الإقطاع. وهذا لا يتمشى مع تطور مجلس الدولة، وتطور مصر والعالم الذي يعيش فيه.