عبدالرحيم درويشة
عندما غاب علم الثورة عن المؤتمر الصحفي لرئيس الائتلاف، انبرى الجميع للكلام، وذلك هو المهم! المهم أنهم تكلموا وكان كلامهم يعبر عما يرونه ويعتقدونه دون مواربة أو نفاق، وعبروا عما يدور في أذهانهم وما يختلج مشاعرهم، لذلك رأينا ردود الأفعال تتفاوت بين تقبل الأمر وكأن شيئاً لم يكن، وبين شتم مبالغ فيه، لقد كانت قضية العلم ذاتها هي الحاضرة، ولكن قضايا أخرى ظهرت لم يلتفت إليها معظم الشعب، ولكنها مهمة وجديرة بالوقوف عندها، فهي تعبر عنا بكل الأحوال.
تمثل سورية في هذه الأيام حالة عربية وإسلامية استثنائية يخوض فيها المجتمع السوري تجربة فريدة لم تعتد عليها الشعوب العربية، لا أتحدث هنا عن حجم الكارثة التي دمرت البلد بشكل كامل أو عن عدد الضحايا من شهداء ومصابين، بل أعني الحالة الاجتماعية والفكرية التي وصل إليها المجتمع السوري، وبعبارة أخرى، كمية التنوع الهائلة التي نستطيع أن نلمسها في الأفكار والتوجهات والانتماءات على الأرض وبين أفراد المجتمع، والتي ينظر إليها الجميع على أنها نوع من الفوضى والشتات، ويتسنى الآن لأي متابع لتلك التحولات والتغيرات المهمة، أن يرى مقدار التنوع والاختلاف في الآراء التي يطرحها السوريون، والتي تعبر عنهم كأفراد فقط ودون خوف من أحد.
ليس الاستثناء في وجود التنوع فقط، لكن في كونه واقعاً ملموساً على الأرض، وهو يتجسد أحياناً في منصب أو توجه أو تيار أو حركة، فتجد من السوريين من يؤيد تنظيم الدولة، ومنهم من يدعو إلى الديمقراطية، ومنهم من يعمل على مشروعه الذي يعتقد فيه خلاص العباد والبلاد، ومنهم من يأمل في نقل تجربة أعجب بها، وأنا هنا أتحدث عن المجتمع كله، فلا مجال لإقصاء أحد لموقف سياسي أو ديني.
لقد عاشت سورية عقوداً من السلطة الفردية المستبدة، ومن سمات تلك السلطة أنها تطبع الناس بقالب واحد، وتخلق مجتمعاً مبرمجاً يخضع لسياستها، بدا ذلك أوضح في سورية خصوصاً أن الاشتراكية والتي هي معنية أكثر من غيرها بتحديد حياة الفرد ورسمها بالشكل الذي تقتضيه المصلحة، كانت هي سياسة الدولة في عهد الأسد الأب، ولم يتغير الكثير في عهد ابنه، فكانت سياسة الحزب الواحد والفرد الواحد واللون الواحد على كل صعيد وفي كل مجال، ويعرف ذلك من عاش تلك الأيام، حيث هناك نوع تحدده الدولة من كل شيء، حتى من حلوى الأطفال! لم يكن ذلك الواقع الجامد الممل سوى انعكاس للفكرة التي فرضت على المجتمع وأجبر عليها، ويمكنني القول: إن كل أفراد المجتمع كانوا يعيشون حياة واحدة، بلون واحد وطعم واحد، وتلك هي المصيبة الكبرى، أن يختزل الشعب في شخص واحد وشكل واحد، أن يكون الأفراد نسخاً مصغرة عن الزعيم الخالد الفرد.
لقد كانت فكرة الحرية التي قامت الثورة من أجلها نقضاً لكل ذلك البناء الواهي الذي جثم على صدور الشعب لأجيال، وكان لا بد لها أن تزيل تلك القولبة الظالمة التي تنسخ الفرد، لا لتستعبده للمجتمع، وإنما لتخضعه لاستبداد فرد آخر، فالمستبد لا يستطيع أن يحكم التنوع، لأن التنوع يثير في الإنسان حريته، لذلك ولكي يتم للمستبد الأمر، يجب أن تسود فكرة واحدة فقط، لا يهم ما هي، المهم أن تكون في يده متماشية مع هواه، مبررة لأفعاله، ولا يملك الإنسان عندها مخالفته، وقد كسرت الثورة ذلك النظام، فقط عندما جعلت من هؤلاء الأفراد شخصيات مستقلة تعبر عن ذاتها.
قد يبدو من الفوضى والاضطراب الذي نعيشه في الداخل السوري من اختلاف بين الكتائب، أو من تشتت في المعارضة حيث لا يكادون يجمعون على كلمة، قد يبدو فيه شيء من الضياع والخطورة، ولكنها مرحلة يجب أن نمر بها قبل أن نصل إلى المراد، يجب أن نختلف أولاً ثم نعتاد على احترام الاختلاف فيما بيننا، ثم نتعلم كيف ندير هذا التنوع والاختلاف حتى يثمر، فالاختلاف والتنوع حالة مجتمعية صحية، ودور السياسي هو أن يستثمر في هذا التنوع لا أن يلغيه.
لا بأس أن يتحدث الناس بأخطاء السياسيين أو العسكريين أو غيرهم، فحالة النقد تلك مطلوبة، بالطبع ما لم تتجاوز إلى التجريح والشخصنة، وهذا النقد هو ما يحفظ المجتمع من أن يستبد به أحد، أو أن يستقر أحد بتقرير مصيره، ولا يكون هذا استخداماً خاطئاً للحرية في حال من الأحوال، فإن ما يخلق التوازن في المجتمع ويطلق فيه هامش الإبداع والتفكير هو ذلك التفاعل المستمر البناء بين أفراد المجتمع، ولكن في المقابل, لا بد أن تستخدم تلك الحرية في الشكر، وأعني هنا أن يتحدث المجتمع بكثرة عن محاسن المحسنين وخدماتهم، فكل من قدم وأعطى يستحق منا الثناء والوفاء، فكما أن نقد الأخطاء يخفض المسيء ويبعده، فإن شكر المحسن والصالح يرفعه ويقدمه، وتلك العملية الاجتماعية – إن صدق وصفها – هي التي تفرز للمجتمع قادة يحاكون همومه ويعرفون حاجاته ويفهمون معاناته.