على نحو متزامن وبعد طول انقطاع، عاودت الاضطرابات الإثنية في إيران الاشتعال على أكثر من جبهة، إذ اتسعت رقعة الاحتجاجات لتصل إلى إقليم الأحواز (عربستان) جنوباً، بعدما تفجرت في إقليمي كردستان غرباً وبلوشستان شرقاً، ثم مؤخراً في مدينة مهاباد، ذات الأغلبية الكردية بولاية أذربيجان الغربية، بسبب انتحار فتاة كردية جراء تعمد السلطات الإيرانية الإساءة إلى الأكراد وسلبهم كرامتهم وحرياتهم وحقوقهم القومية والثقافية والإنسانية؛ الأمر الذي أسفر عن اعتقال أكثر من 300 كردي في مدينة مهاباد، بينهم العشرات من النساء، وأكثر من مائة آخرين في مدينة سردشت، بينهم ثلاث نساء.
وساعدت تطورات شتى على إعادة أزمة الملف الإثني في البلاد إلى الواجهة خلال السنوات القليلة الماضية، من بينها تفاقم المشكلات الاقتصادية والسياسية، ومحاولات الاتجاه بنظام ولاية الفقيه نحو مزيد من التسلط واحتكار السلطة عبر ما عرف بـ”النجادية”، نسبة إلى الرئيس محمود أحمدي نجاد الأمر الذي أدى إلى احتدام حرب تكسير العظام بين الخصوم والأجنحة السياسية المتنافسة داخل النظام الإيراني بشكل ملحوظ خلال الولاية الثانية لنجاد، على نحو تجلت ملامحه في إقالة وزير الخارجية منوشهر متقي، وتعيين أكبر صالحي بدلاً منه، وتتنوع الأقليات في بلد لا يتعدى تمثيل الفرس فيه نسبة 40% تقريباً من جملة السكان.
فسيفساء إثني
تطوي إيران موزاييك مكوناً من عدة قوميات، أهمها الفرس والترك والأكراد والعرب والتركمان واللور والجيلان، ويتهم نشطاء هذه القوميات السلطات المركزية بممارسة سياسة التفريس (فرض الهوية الفارسية) حيالها منذ ثمانية عقود؛ بهدف صهر هويتها في أخرى فارسية؛ لذا، نشطت تلك الأقليات في تحري الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على هويتها بالتوازي مع مطالبة السلطات الإيرانية بتطبيق المواد المعطلة من الدستور الحالي التي تؤكد المساواة بين القوميات والسماح لأبنائها بتعليم لغاتها القومية، وصولاً إلى مطالبة بعضها بالانفصال.
وبينما تؤكد إيران أنها لا تفرق بين مواطنيها على أساس القومية أو اللغة أو اللون أو المذهب، لا يتورع النظام الإيراني عن ممارسة التمييز ضد مواطني الأقليات في صور شتى؛ ما بين استبعادهم من تولي المناصب الرفيعة في الدولة، وهو تمييز محمي من قبل الدستور الإيراني الذي يحتوي على مواد عنصرية، فرغم أن (المادة 19) من الفصل الثالث منه تنص على عدم التمييز بين الإيرانيين على أساس عرقي، فإن (المادة 12) تتجاهل حق التنوع الإثني والحرية الدينية؛ إذ تنص على أن المذهب الجعفري الإثني عشري هو المذهب الرسمي للدولة، كما تلزم (المادة 121) رئيس البلاد بحماية هذا المذهب بكافة الوسائل، واشترط الدستور أيضاً على من يتولى رئاسة الدولة أن يكون من أصل إيراني ويحمل الجنسية الإيرانية، ويكون مؤمناً ومعتقداً بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد، وهو ما يصادر حق المسلمين السُّنة من أكراد وتركمان وعرب وغيرهم في هذا المضمار.
كذلك، تعاني الأقليات في إيران من وطأة القيود التي تعوقها عن مباشرة حقوقها الثقافية، رغم أن الدستور الإيراني ينص في البندين (15) و(19) على حق الأقليات في استعمال لغاتهم في المجالات التعليمية والثقافية، حيث تمنع السلطات بناء أي مسجد للسُّنة بالعاصمة طهران، رغم وجود كنائس ومعابد يهودية وحتى أماكن عبادة لأتباع الديانات الوثنية كالزرادشتية.
التنكيل بالسُّنة
ولا تقتصر الاتهامات للنظام الإيراني بممارسة التمييز الممنهج ضد الأقليات الإثنية في بلاده على ممثلي تلك الأقليات فحسب، وإنما اتسعت لتشمل جهات دولية وإقليمية، فمن جانبها، أدانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” ما سمته اضطهاد الأقليات في إيران، وجاء في تقرير لها أنه لا يزال أبناء الأقليات العرقية والدينية في إيران عرضة للتمييز، بل وللاضطهاد، وأشارت إلى معاناة البلوش من عدم تمثيلهم في الحكومة المحلية، وفي سياق موازٍ، ورغم قيامها مؤخراً بإدراج تنظيم “جند الله” على “قائمة الإرهاب الأمريكية” بعد أن أعلنت أنه استوفى، من وجهة نظرها، المواصفات الأمريكية في هذا الصدد، ألقت واشنطن باللائمة، في أعمال العنف الطائفي التي تجتاح إيران، على ممارسات طهران التمييزية ضد السُّنة هناك، فرغم إدانتها لحوادث التفجير التي يقوم بها التنظيم داخل إيران، بما فيها ذلك الأخير، أوردت تسريبات “ويكيليكس” الأخيرة بشأن إيران عبر برقية صادرة من السفارة الأمريكية بالعاصمة الأذرية باكو وموجهة إلى واشنطن بتاريخ 12 يونيو 2009م تحميل واشنطن تصرفات الرئيس الإيراني نجاد المعادية للسُّنة، مسؤولية الاضطرابات والتدهور الأمني في إقليم بلوشستان – سيستان.
وأوردت البرقية أن مصادر عسكرية أذرية بينت قلق بلادها من تصاعد العنف بين الأقليات الإيرانية والحكومة، وأن أذربيجان التي تشارك إيران حدوداً طولها أكثر من 430 كيلومتراً لا تريد جاراً مضطرباً داخلياً، وأكدت المصادر أيضاً أن الرئيس أحمدي نجاد يرتكب ممارسات معادية ومستفزة للسُّنة في إيران مثل التعرض لمشايخهم ومضايقتهم في صلاتهم والإغارة على مساجدهم، كما أمر أحمدي نجاد بعدة حملات استعراضية للتنكيل بالسُّنة خلال السنين الماضية، وقالت المصادر، وفق البرقية: إن ما يثير قلق بلادهم أن تلك الممارسات، وإلى جانبها نسبة البطالة المرتفعة والشعور بالتمييز وقلة الخدمات الحكومية، قد ساهمت جميعها في تكوين غضب كامن في نفوس البلوش الإيرانيين، حتى صاروا ينعتون الحكومة المركزية بطهران بـ”العدو”، وإن أحمدي نجاد تعمد إثارة البلوش السُّنة، عندما عين حليفه وأقرب أعوانه حبيب الله ديهموردا، الذي وصفته المصادر بالغبي والدموي واتهمته بكراهية السُّنة، حاكماً على بلوشستان.
الأحواز
ويقول يعقوب التستري، مسؤول المكتب الإعلامي لحركة النضال العربي لتحرير الأحواز، التي تأسست عام 1999م، لصحيفة “الشرق الأوسط”: إن الحركة تناضل من أجل تحرير الأحواز أرضاً وشعباً بكل السبل المشروعة، ويضيف: شهدت الأحواز منذ مارس الماضي مظاهرات واحتجاجات متواصلة ضد السياسات “الإجرامية للاحتلال الفارسي”، على رأسها سياسة الاستيطان والاعتقالات والإعدامات العشوائية بحق أبناء شعبنا العزل.
ويقول: إن المظاهرات توسعت لتشمل عدة مدن أحوازية كمدينة الأحواز العاصمة والمحمرة والسوس، وبعد عدة أسابيع انضم الشعب الكردي لانتفاضة شعبنا بعد أن تظاهر الآلاف من أبناء شرق كردستان في مدينة مهاباد دفاعاً عن كرامة وشرف الفتاة الكردية فريناز خسروي، رداً على القمع الوحشي للمظاهرات السلمية لشعبنا، وقال: إن النظام الإيراني لا يثق بالأقليات القومية أو الطائفية، وهناك علويون في إيران وأيضاً لا يثق بهم، مؤخراً تم فتح مراكز دينية لهم ويتم التعامل معهم مجاملة للنظام السوري ومحاولة لاستمالتهم ويطلق عليهم هناك طائفة تسمى الـ”يارسان” قريبة منهم، قريبون جداً من العلويين ويتعرض هؤلاء لاضطهاد شديد من قبل الملالي.
انكسار الخوف
عمر الخانزاده، السكرتير العام لحزب “كادحي كردستان”، قال: إن ممارسات نظام الملالي الخارجية وأطماعه التمددية والتنكيل والاستمرار في سياسة التنكيل والقمع بحق الأقليات القومية والطائفية جعل صبر الشعب الإيراني ينفذ وكسر حاجز الخوف من شبح الباسيج (الحرس الثوري)، ولم يعد شعبنا يتحمل مزيداً من ممارسات هذا النظام الطائفي، والاحتجاجات الأخيرة والانتفاضة في شرق كردستان كانت دليلاً واضحاً على أن إيران داخلياً على صفيح ساخن، وجاءت أيضاً لتؤكد أن النظام الإيراني رغم يده الطولى في بلدان الجوار الإقليمي، فإن إحكام قبضتها الحديدة على الداخل أصبحت مهددة.
ويؤكد أن الانتفاضة التي اندلعت مؤخراً في شرق كردستان ضد نظام الطائفي في إيران سوف تستمر رغم تهديدات الإطلاعات (جهاز الاستخبارات الإيرانية)، والباسيج (الحرس الثوري الإيراني) للنشطاء الكرد في كردستان إيران والذين ينظمون الاحتجاجات ويقودون حملات التضامن مع مهاباد التي شهدت موجة غضب تحولت إلى انتفاضة عارمة اتسعت رقعتها لتشمل غالبية المدن في شرق كردستان، على أثرها أعلنت حكومة الملالي قوانين الطوارئ في كثير من المدن الكردية المنتفضة وعلى رأسهم مهاباد.
من جهته، قال رئيس حزب الكادحين الثوريين الإيراني عبدالله مهتدي: إن إيران تمارس دوراً سلبياً في منطقة الشرق الأوسط، وهي السبب الأساسي في الاضطرابات التي تشهدها كل من اليمن والعراق والبحرين ولبنان والخليج العربي، وهي التي تمنع سقوط نظام الأسد في سورية، وسيطرة “حزب الله” في لبنان، ودعم الحوثيين في اليمن، وهي التي دفعت العراق إلى الأزمة من خلال دعمها سياسة رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي، وتعد العامل الرئيس للاضطرابات في البحرين، والخليج العربي.
الأكراد.. الخطر المحدق
لا يمكن الجزم بعدد أكراد إيران في ظل غياب مرجع ذي مصداقية كافية بهذا الصدد، خاصة أن تعداد الأقليات يعد سلاحاً سياسياً في منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالأقليات والطموحات الانفصالية، وبحسب بعض المصادر غير الكردية، تتفاوت التقديرات لأعداد الكرد ما بين 7 – 9% من إجمالي سكان إيران، لكن المصادر الكردية تذهب أبعد من ذلك، والأقرب إلى الحقيقة أن الأكراد هم العرقية الثالثة في البلاد بعد الفرس والأذريين، ويتركز وجودهم في جبال زاجروس على امتداد الحدود مع تركيا والعراق، وهم موزعون على أربع محافظات، هي: أذربيجان الغربية، كردستان، كرمنشاه، إيلام، ولم تعترف إيران يوماً ما بخصوصية العرق الكردي، وللأكراد الإيرانيين تجربة تاريخية في إقامة حكم مستقل، ألا وهو دولة “مهاباد” التي لم تدم إلا فترة وجيزة ولكنها كانت كافية لتلهم الشعور الكردي عامة والإيراني منه خاصة بالاستقلال، وحينما قامت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م.
المصدر: صحيفة “الشرق الأوسط”