تسارعت منذ بداية العقد الحالي وتيرة التطورات السياسية ومتغيراتها الأمنية في منطقة الشرق الأوسط على نحو دراماتيكي؛ مما حمل مؤشرات وإرهاصات واضحة لجهة تبدُّل جوهري في ماهية المصالح ونوعية التحالفات التي يمكن أن تتشكَّل في الإقليم بشكل عام، وفي العالم العربي بالأخص.
فقد باتت الدول العربية، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي الست، تواجه تهديدات متزايدة لاستقرارها وأمنها الوطني والإقليمي، وتحولت التحديات المحتملة إلى أخطار محدقة مؤكدة.
ويمكن أن نوجز أهم هذه التهديدات في التالي:
– توسع النفوذ الإيراني في المنطقة وامتداده إلى الجوار المباشر لدول الخليج؛ شمالًا في العراق، وجنوباً في خاصرة أمن شبه الجزيرة العربية في اليمن، وهو ما يعكس نزعة هيمنة واضحة لدى طهران، عبَّر عنها علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني بقوله: إن إيران أصبحت بالفعل إمبراطورية وعاصمتها بغداد، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما كانت عبر التاريخ، إضافة إلى تصريحات كبار المسؤولين الإيرانيين عن الدعم المباشر الذي تقدمه طهران لمتمردي الحوثي في اليمن، واعتبارها هذه الجماعة نسخة يمنية من “حزب الله” اللبناني.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد تحدث نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن وجود مصالح أمنية لبلاده في اليمن، وشدَّد على أنها لن تسمح بتعريض هذه المصالح للخطر.
ويستدعي هذا الخطر الإيراني المستفحل موقفاً خليجياً حازماً من أجل استعادة التوازن الإستراتيجي في المنطقة؛ وذلك من خلال تشكيل تحالف خليجي – عربي موسع، لاسيما في ظل غياب دور العراق – ولو إلى حين – كموازن إقليمي تقليدي لإيران فيما يتصل بأمن الخليج.
– تعاظم خطر الإرهاب؛ لاسيما مع الصعود السريع والمفاجئ لبعض التنظيمات المتطرفة إلى أن أصبحت تشكل تحدياً وجودياً للدولة الوطنية، وغدت مصدر تهديد لاستقرار دول المنطقة، داخلياً وخارجياً؛ كتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف إعلامياً بـ”داعش”، وتتمثل أخطار الإرهاب، غير الأمنية، في تهديده للاستقرار السياسي والهوية الوطنية والتماسك الاجتماعي.
وثمة أسباب عدة تتطلب من دول مجلس التعاون الخليجي بناءَ وتكريسَ تحالفات إقليمية ودولية؛ بالنظر إلى ما لهذه التهديدات من سمات؛ أهمها:
– الامتداد المكاني الجيوستراتيجي للتداعيات المباشرة وغير المباشرة لهذه التهديدات، وتخطيها الحدود الجغرافية للدولة الواحدة، إلى دول الجوار القريب والبعيد في آنٍ معاً.
– الامتداد الزمني للتأثيرات المحتملة لهذه الأخطار، وتجاوزها الحاضر إلى المستقبل؛ مما يجعل كلفتها المالية والسياسية تتجاوز طاقة أي دولة منفردة، ويتطلب تكاتفاً وتعاوناً جماعياً للتغلب عليها.
وبناء عليه تستدعي هذه التهديدات والأخطار من دول الخليج إعادة النظر في طبيعة تحالفاتها العسكرية القائمة والمحتملة، مع القوى العربية والإقليمية والدولية، إضافة إلى تعزيز التشاور والتنسيق والتعاون الخليجي – الخليجي في إطار منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
وقد انخرطت دول الخليج بالفعل في العديد من التحالفات الأمنية والسياسية والعسكرية من أجل التصدي لتلك الأخطار؛ وفي هذا الإطار كان انضمام دول مجلس التعاون للتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أُعلن عنه لمواجهة تنظيم “داعش” في أغسطس 2013م.
كما كان لدول الخليج فضل المبادرة بتدشين تحالف عربي إسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية لإعادة الشرعية في اليمن؛ ممثلاً في عملية “عاصفة الحزم”؛ التي استمرت عملياتها العسكرية 27 يوماً خلال الفترة من 26 من مارس إلى 21 من إبريل 2015م.
في السياق ذاته، فقد أعربت دول مجلس التعاون الخليجي عن ترحيبها بقرار القمة العربية الأخيرة التي عُقدت في شرم الشيخ المصرية خلال يومي 28، 29 مارس 2015، بإنشاء قوة عسكرية عربية مشتركة لمواجهة التحديات التي أصبحت تهدد الأمن القومي العربي.
“عاصفة الحزم” كنموذج للتحالفات الإقليمية الناجحة
شكَّلت عملية “عاصفة الحزم” بقيادة المملكة العربية السعودية نموذجاً للتحالفات الخليجية الإقليمية الناجحة في مواجهة الأخطار والتهديدات الأمنية، ويمكن القول: إن هذه العملية تُعدُّ مثالاً يُحتذى به للتحالفات العسكرية التي بمقدور دول مجلس التعاون اتخاذ زمام المبادرة بتشكيلها وبالانضمام إليها؛ بل وبقيادتها.
وقد مثَّل هذا التحالف الجديد منعطفاً تاريخياً في مجال التحالفات الإقليمية والدولية المعاصرة في العالم العربي برمته؛ فهو تحالف عربي – إسلامي موسع بدعمٍ دولي؛ حيث اقتصر الدعم الدولي كما أُعلن على الإسناد الاستخباراتي واللوجستي من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2216)؛ الذي اتخذته المنظمة الدولية تحت الفصل السابع من ميثاقها؛ الذي منح التحالف غطاءً دولياً إضافياً؛ من هنا يمكن النظر إلى تحالف “عاصفة الحزم” باعتباره مدخلاً مناسباً ومثالياً لبناء نظام إقليمي أكثر مراعاة للمصالح العربية والخليجية في المقام الأول.
من جهة أخرى، يكشف إمعان النظر في ردود فعل القوى الدولية إزاء “عاصفة الحزم” إلى أي مدى تمثل هذه العملية تحولاً إستراتيجياً نوعياً ليس على مستوى بنية وطبيعة العلاقات الإقليمية في المنطقة فحسب؛ بل – أيضاً – على مستوى قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على اتخاذ “موقف المبادِر” من أجل حماية مصالحها وأمنها من التهديدات الخارجية اعتماداً على قدرتها الذاتية، وحسن استثمارها لقوتها الناعمة في حشد بعض القوى الإقليمية الفاعلة ذات الثقل الإستراتيجي للانضمام إلى هذا التحالف.
وليس أدلَّ على ذلك مما أشار إليه السفير الأمريكي في دولة الكويت دوجلاس سليمان من أن “عاصفة الحزم” تثبت قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على القيام بالخطوات اللازمة لحماية نفسها والدفاع عن أمنها.
ويكشف الموقف الإيراني المتردد والحريص على عدم التصعيد إزاء دول الخليج – على الأقل في هذه المرحلة – إلى إدراك طهران أن “عاصفة الحزم” تمثل تحالفاً إقليمياً موسعاً بقيادة المملكة العربية السعودية؛ يمكن له أن يستهدف ردع نفوذ طهران المتنامي في المنطقة.
وبوجه عام، فقد أرست “عاصفة الحزم” مرتكزات حيوية لنموذج تحالف عربي – إسلامي بغطاء دولي، وأطلقت مؤشراً عملياً قوياً على القوة الذاتية الكامنة لدى الدول العربية، وفي القلب منها دول الخليج، بما يقتضي طرح رؤى إستراتيجية وفكرية لجهة إعادة اكتشاف الذات العربية، ومكامن القوة فيها، والعمل على تفعيلها من جديد.
الدروس المستفادة
شهدت الخبرة المعاصرة مشاركة دول مجلس لتعاون الخليجي ودول عربية أخرى، في عدة تحالفات اتخذت أشكالاً وأنماطاً متعددة، منها ما جاء في شكل تحالفات عربية – عربية، أو عربية – دولية، كتحالف “عاصفة الصحراء” في عام 1991م.
وفي المقابل، فقد عرفت الخبرة الخليجية والعربية، حالات لآليات عسكرية مشتركة؛ لكنها لم تصل إلى شكل الحلف العسكري بمعناه القانوني التام؛ ومن ذلك ما تم تشكيله تحت مظلة جامعة الدول العربية “معاهدة الدفاع العربي المشترك” في عام 1950م، ومشروع القوة العربية المشتركة التي دعت إليها القمة العربية الأخيرة؛ التي مازالت قيد الدراسة.
كما شهدت المنظمات العربية ما دون القومية – مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية – خبرات مماثلة؛ حيث وقَّعت دول الخليج الست إستراتيجية دفاعية موحدة، كما شكلت قوات “درع الجزيرة”.
وفي ضوء هذه الخبرات المختلفة، يمكن أن نستخلص بعضاً من الدروس المستفادة، التي تُعِين على بلورة تحرك خليجي مدروس وواثق لتعزيز أمن دول مجلس التعاون وتحفظ أمنها واستقرارها، وتصون استقلالها وسيادتها من أي عدوان أو تهديد؛ وذلك على النحو التالي:
– أن التحالفات غير المؤسسية تخضع – في الأغلب الأعم – لتوازنات القوى بين الدول المنضوية تحت لوائها، وتسعى لتحقيق مصالح الدولة أو الدول القائدة للتحالف وصاحبة الوزن النسبي المؤثر فيه، وهذا ما عكسه – على سبيل المثال – التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإرهاب في أعقاب أحداث 11 من سبتمبر 2001م؛ حيث استثمرت واشنطن في التحالف لحماية أمنها الوطني، فيما ظل العالم يعاني حتى الآن من تبعات الإرهاب.
كذلك الحال بالنسبة إلى التحالف الدولي الحالي ضد “داعش”؛ حيث لم ينجح – حتى الآن – في القضاء على هذا التنظيم، بسبب تصارع مصالح القوى الدولية والإقليمية في المنطقة، وسعي كلٍّ منها لاستثمار “داعش” كورقة ضغط على الأطراف الأخرى؛ لضمان تحقيق أقصى قدر ممكن من مصالحها الآنية والمستقبلية.
إن امتلاك القدرة الذاتية وترجمتها إلى قوة عملية، هو الضامن الأوحد الكفيل بالحفاظ على أمن دول الخليج وصون سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها؛ وإذا كان ذلك صحيحاً في السابق، فقد بات ضرورة في الوقت الحالي؛ بالنظر إلى عدة اعتبارات:
– اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية – الحليف الإستراتيجي لدول الخليج العربية – إلى مراجعة ثوابت سياستها الدفاعية والخارجية عموماً؛ لاسيما لجهة تغيير أولويات هذه السياسات بتحول الاهتمام الأمريكي إلى شرق الباسيفيك على حساب الشرق الأوسط.
ومن ضمن ما قد يعنيه ذلك، أن تُبقي واشنطن على دعمها العسكري لحلفائها الإقليميين في الشرق الأوسط – وفي مقدمتهم دول الخليج – ولكن في الوقت ذاته تحثهم على تطوير قدراتهم الدفاعية الذاتية.
– التحول المتوقع في طبيعة العلاقات الأمريكية – الإيرانية من الصراع إلى التعاون؛ وذلك في أعقاب توقيع اتفاق نهائي بشأن البرنامج النووي الإيراني بنهاية يونيو المقبل، وما يستتبعه التقارب المُرجح بين واشنطن وطهران من تنازلات أمريكية ستعزز من مكانة إيران كقوة إقليمية فاعلة، وتزيد من نفوذها المتعاظم أصلاً.
– أثبت تحالف “عاصفة الحزم” أن التحالفات التي تقودها القوى الدولية غالباً ما تكون مؤقتة وعرضة للانهيار بسبب تقلبات حسابات المصالح على الرغم من أهميتها البالغة وضرورتها القصوى أحياناً، فإنها يجب ألا تكون بديلاً عن التحالفات مع الأشقاء؛ فالأخيرة إن كانت المصالح إحدى ركائزها، فإنَّ محفزات بنائها ووقود صيرورتها يتجاوز ذلك إلى روابط أقوى وأمتن، وهو ما يمنحها صفة الاستمرارية والتطور الأوثق عبر الزمن.
مستقبل القوة العسكرية لدول الخليج
من المتوقع أن يُسهم عدد من العوامل والمحددات في رسم شكل وطبيعة مستقبل القوة العسكرية الجماعية لدول الخليج العربية؛ منها:
– المحدد الخليجي: ويتمثل في مدى نجاح دول الخليج العربية في تحقيق مزيد من التعاون العسكري فيما بينها، على نحو مؤسسي ممنهج ومتكامل؛ وذلك بالاعتماد الذاتي في بناء قدراتها الدفاعية من خلال الجمع بين التكنولوجيا العسكرية المتطورة وبين الكوادر الوطنية المؤهلة، وتُظهر المؤشرات أن دول مجلس التعاون الخليجي قد حققت خطوات نوعية مهمة في تعزيز قدراتها الدفاعية؛ وليس أدل على ذلك من قرب الإعلان عن تشكيل القيادة العسكرية الخليجية الموحدة.
كما تشير الصفقة التي أعلنت دولة قطر عنها مؤخراً للحصول على مقاتلات “رافال” الفرنسية – التي تضمنت تدريب 100 طيار وفني قطري – إلى أن دول الخليج أصبحت أكثر نضجاً فيما يتعلق بقضايا الدفاع، وأنها تتبنى منظوراً تكاملياً في هذا الشأن.
– المحدد العربي: ويرتبط بطبيعة القيود الداخلية التي قد تتعرض لها الدول العربية الفاعلة المرشحة للانضمام لأي تحالف إقليمي (خليجي – عربي)، خاصة مصر والأردن.
– المحدد الإقليمي والدولي: ويتصل بنوعية التحولات -الإيجابية أو السلبية – التي قد تطرأ على أنماط العلاقات الراهنة بين القوى الإقليمية والدولية المعنية بأمن الخليج؛ ولاسيما مستقبل العلاقات بين إيران وبين الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد توقيع الاتفاق النووي النهائي المزمع بنهاية النصف الأول من العام الجاري.
سيناريوهات القوة العسكرية الخليجية
في ضوء هذه المحددات يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات لمستقبل القوة العسكرية الجماعية لدول الخليج العربية وأنماط تحالفاتها في الفترة المقبلة؛ وذلك على الشكل التالي:
حلف خليجي – خليجي: من خلال منظومة تعاون عسكري خليجي – خليجي في إطار مجلس التعاون الخليجي؛ وذلك في حال إتمام مراحل وخطوات التكامل الدفاعي وفق إستراتيجية الدفاع المشتركة.
تحالف خليجي – عربي: عبر انضمام دول الخليج إلى القوة العسكرية العربية المشتركة، ويفترض هذا السيناريو أن تشكيل هذه القوة سيتم بوتيرة أسرع من التكامل العسكري بين دول مجلس التعاون الخليجي نفسها.
تحالف خليجي – إقليمي موسع على غرار “عاصفة الحزم”: بحيث تشكل دول الخليج نواته، إضافة إلى اليمن، ودول عربية وإقليمية معنية بأمن دول الخليج العربية كمصر والأردن وتركيا، ويعدُّ السيناريو الأخير هو الأقرب إلى التحقق من الناحية العملية؛ وذلك في ضوء المعطيات الموضوعية ذات الصلة بالمحددات السالفة ذكرها.
المصدر: مركز “الجزيرة للدراسات”